رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر الموهبة


عادة ما نقول «فلان كاتب موهوب»، ونقصد بذلك أنه يتمتع بقدرة خاصة، مبهمة، وهى ليست المهارة، لكنها شىء آخر غامض، نشعر به ولا نستطيع أن نحدد جوهره.. علامات الموهبة ظاهرة، لكن سرها دفين، إذ لا يدرى أحد مصدرها، ولا يمكن الجزم بأنها عنصر وراثى، كما لا يمكن الجزم بأنها الدربة والتعلم.
وقد تعرفت فى حياتى إلى موهوبين كثيرين لم يكن فى تاريخ حياتهم وعائلاتهم أى إشارة وراثية أو اجتماعية إلى الموهبة.. يحاول البعض رد تلك المنحة الغامضة إلى العمل والإرادة والخبرة، كما يقول د. أندرس إريكسون فى بحث له: «إن كل خبير هو نتاج عشرة آلاف ساعة من التدريب الملزم»، ويضيف: «لا يوجد نوع من الخلايا يملكه العباقرة ولا نملكه».
وهنا تبدو الموهبة ابنة الإصرار على العمل والممارسة، ولكننا نرى البعض ممن يعملون ليل نهار وينشرون الروايات التى نقرأها ثم نمصمص شفاهنا بعد ذلك قائلين: «نعم.. لكنه غير موهوب»! وليس الأمر فى عدد ساعات العمل، هل يكون مرد الموهبة إلى الوراثة؟ لكنك إذا نظرت إلى جذور كُتّاب عظام عندنا، مثل نجيب محفوظ، فلن تجد فى عائلته من سبقه إلى الفن، والأكثر من ذلك أنك لن تجد فى أسرته الصغيرة من واصل عمله بعد وفاته. فالمسألة إذن ليست وراثة، أيضًا لم يظهر بعد الروسى العملاق ليف تولستوى كاتب من نسله!
وقد أتاحت لى الدراسة فى جامعة موسكو أن يكون حفيد تولستوى معلمًا يدرّس لنا اللغة اللاتينية، لكنه لم يحمل من جده العظيم سوى ملامحه الخارجية وطول قامته، مع أدب أرستقراطى شديد، ولم يكتب حرفًا واحدًا مبدعًا.. وقد تعرفت إلى جمال الغيطانى بالمصادفة مبكرًا ونحن أقل من سن السادسة عشرة، وحين أخذت أتردد على بيته فى درب الطبلاوى، أدهشتنى حياة أسرته التى لم يكن فى تاريخها ما يشير إلى الموهبة أو الاهتمام بالفن، وحين سألت جمال: ما الذى جعلك تتجه إلى الكتابة والأدب؟ قال: «والله لا أعرف.. كنت أمر بجوار سور كتب فى الحسين فوجدت كتابًا التقطته، وفى اليوم الثانى اشتريت آخر، وهكذا».. العقاد أيضًا حالة مشابهة.
وبينما يبدو لنا أن تلك المَلَكة المذهلة تظهر فجأة من فراغ، فإنها تغمر البعض أحيانًا بكرمها، كما فى عائلة «برونتى»، حيث نجد الأخوات الثلاث الأديبات: شارلوت، إيميلى، آن، اللواتى نشأن فى الريف بمقاطعة يوركشاير، وتمتعن جميعًا بالموهبة الفذة.. أيضًا غمرت الموهبة عائلة القاص العظيم أنطون تشيخوف، فكان أخوه الأكبر ألكسندر كاتبًا، وأخوه الأصغر رسامًا، وعندنا فى عائلة التيمورية مثال آخر على كرم الموهبة فى بعض الأحيان مع بعض العائلات.. والمؤكد أنه لا التدريب ولا الوراثة هما مهد الموهبة.
وقد ساد الاعتقاد طويلًا منذ ظهور نظرية داروين أن الموهبة ابنة البيئة والظروف المناسبة، لكن الواقع يكذّب ذلك، ويؤكد أن هذا الظن يشبه الاعتقاد بأن «البسكويت» يأتى من الدقيق والسكر، لأنه ما من شىء يجزم بأن البيئة المناسبة الفنية أو الأدبية تلد الموهبة.. وإذا أخذنا مثالًا واضحًا فإن ابنتى أديبنا العظيم نجيب محفوظ لا علاقة لهما بالأدب، رغم النشأة والبيئة التى كان ينبغى أن تؤثر فيهما.. ابنة الأديب العظيم يحيى حقى لا تمارس الأدب، ولم يعرف عن أبناء عظماء الأدب الأوروبى أنهم كانوا موهوبين.. لا الوراثة ولا التدريب والعمل ولا النشأة والبيئة، ولا شىء من كل ذلك يفسر ظهور الموهبة لدى البعض وغيابها عن البعض الآخر.
تظل أسرار مولد الموهبة دفينة بعمق، ونظل لا نرى سوى زهورها حين تتفتح، لهذا كان أنطون تشيخوف يقول إن الموهبة تظهر لدى واحد فى المليون، وأكد فى قصة له بعنوان «مشاعر حادة» أن الموهبة قوة أصيلة كالغرائز! يظل سر الموهبة غريبًا ودفينًا، لكن المؤكد أيضًا أن موهبة بلا عمل لا تساوى شيئًا ولا تقدم شيئًا، لهذا فإن تسعين بالمائة من تاريخ الأدب هو تاريخ الجهد والإصرار والدأب، لهذا حرص الأدباء الكبار جميعهم على العمل المتصل، وكان تولستوى يردد: «إن العمل اليومى الروتينى أهم عندى من المستوى».. ولم يعرف تاريخ الأدب كاتبًا عظيمًا إلا مقترنًا بجهد عظيم، أما الموهبة فيبقى سرها معها.