رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحقيقة المُرّة


أيهما أهون أن يُحتمل.. الحياة بلا عيش، أم الحياة بلا ديمقراطية؟.. سؤال وجهه لى صديق يبحث فى أولويات العمل فى مصر، خلال المرحلة الحالية.. استطرد قائلاً: هل نتوجه نحو المشروع أم تستغرقنا آليات الديمقراطية؟.. ولأنى أعلم أن لصديقى من الأولاد ما يثقل كاهله، وهو من تجاوز الخمسين،

ومازال ينفق عليهم، وهم خريجو الجامعات، لكنهم بلا عمل يحتويهم ويملأ فراغهم ويحفظهم من غائلة الفراغ وأصدقاء السوء، بل ويدر عليهم دخلاً يتكفلون به أنفسهم ويبدأون حياتهم ويحققون أحلامهم، فى بيت وأسرة صغيرة، وهم من حصل على مؤهلات عليا كانت مسوغاً للحصول على وظيفة كريمة، تتويجاً لرحلة مضنية ومكلفة من التعليم، فى تخصصات معتبرة، وبتقدير، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث!.

احترت فى الإجابة عن سؤال صديقى الذى يخيرنى بين الهواء والماء.. فكلاهما عنصران لازمان للحياة، لايمكن الاستغناء عن أحدهما.. ورأيت أن أرد عليه بفقه الأولويات، أى: أى العنصرين أهم للحياة؟، وبأيهما نبدأ؟، وكم من الزمن نستطيع تأجيل واحد دون الآخر؟.. فنحن نختنق بعد دقائق إذا احتجب الهواء عنا، بعدها نموت، وساعتها لا لزوم للماء، إذ الجسد، صاحب الحاجة، قد همد وفارقته الحياة، بينما يمكننا الاستغناء عن الماء بقدر تحملنا للعطش.. وما دامت الحياة تدب فينا بالهواء، إذن فالهواء أولاً، ثم يأتى الماء.

ذلك مثل العيش والديمقراطية.. متلازمتان لا تسيران على مسار واحد، وفى تزامن واحد، بل يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر، والعيش أولاً، لأنه لازم لوجود الثانى وهو الديمقراطية.. المشروع القومى أول ما نبدأ به، لأنه هو الذى يرفع من شأن المواطن والوطن، ويشعر معه الفرد بآدميته وكرامته، لأنه لا كرامة بدون عيش كريم.. فبماذا تنفع الديمقراطية إذا كان البيت جوعاناً ولا يجد ربه ما يسد به رمق أهله؟.. بل كيف يشعر الإنسان بكينونته ويصبح قادراً على الاختيار الصحيح بين الفرقاء فى مسار السياسة، وهو لا يملك قوته وبالتالى ليس مالكاً لقراره؟.. كيف تكون هناك ديمقراطية، وبعض من السكر والأرز وزجاجة من الزيت تشترى أصواتاً فى صناديق الانتخابات؟، ليكون الصندوق فى النهاية كذاباً، والاختيار مزوراً، وغير معبر عن الإرادة الحقيقية للشعوب، لأن بعضاً منها كان جوعان، فحركت معدته أصابعه لتؤشر على من دفع المعلوم، مالاً أو سلعة.. ألم يقولوا فى المثل الشعبى «ساعة البطون تتوه العقول»؟.

صعود الإخوان للحكم لم يكن نتيجة لديمقراطية حقيقية أردناها بعد ثورة 25 يناير، وعبر فيها الشعب عن إرادته الحقيقية، بل جاء نتيجة حتمية لغياب عقل الناخب الذى لم يملك إرادته الكاملة، لأنه كان مغيباً بأفيون الدين الذى نجح الإخوان فى العزف على أوتار عاطفته فى نفوس البسطاء.. كان مغيباً بغياب ثقافة وتعليم فشلا فى صناعة مواطن مصرى مثقف وواعٍ، يستطيع التفريق بين الغث والسمين من البشر.. كان مغيباً بغياب إعلام رسمى اختفى تأثيره منذ زمن بعيد، قصر فيه القائمون عليه، دون رقيب أو حسيب يرسم لهم خارطة الطريق، فيرسمون بدورهم، خارطة طريق المواطن فى وطنه، لأنهم ببساطة لم يعبروا عن آلامه أو يعكسوا أحلامه، ولم يهابوا فى ذلك مسئولاً سيحاسبهم إذا هم كشفوا نقائصه أو فضحوا قصوره.. إعلام لم ينحز للمواطن الذى يدفع له أجره، ونفقات خروجه على الهواء التى تتجاوز المليارات. ثم كانت الطامة الكبرى فى غياب العقل الناخب، عندما مرض فلم يجد من يداويه إلا مثل هؤلاء الذين يتوسلون بكل وسيلة لتحقيق أغراضهم، فى وطن ليس منهم وليسوا منه، وبأموال تأتى بغير حساب، ممن لا يريدون لهذا الوطن أمناً ولا استقراراً.. عقل غاب لأنه لم يجد قوتاً يتقوت به فى أيام الجوع والشظف، فأمده به من اشترط أن يكون هذا القوت، المنقذ من الهلاك، ثمناً لصوت يضعه فى صندوق الانتخابات، لتصبح النتيجة كما رأيناها، ثلاثين عاماً من الفساد فى عهد مبارك، وعاماً من السواد فى حكم مرسى وجماعة الإخوان.

المشروع يا سادة أسبق عندى من الديمقراطية، لأننا بدون ذلك المشروع الذى يسكت الجوع ويحقق الكرامة الإنسانية، ويشعر معه كل فرد أنه جدّ فوجد، سيظل العقل غائباً وستظل الشوارع على ما هى عليه الآن، من مظاهرات وعنف واشتباكات، وجماعات ضالة مضللة تستحوذ على شبابنا، لأنه لم يجد فى دولته سنداً قوياً وحائط صد ضد إغراءات هذه الجماعة أو غيرها من زبانية جهنم.

أعلم أن رأيى هذا لن يعجب البعض، ولكنها الحقيقة المُرّة، حتى ولو استحى بعض المؤمنين بها الجهر باعتناقهم لها، لكنى أقولها، وأجرى على الله، لعلها تكون تذكرة، قد تنفع ولكنها لن تضر.

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.