رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرج فودة.. الرجل الذي ملأ صمت البلاد فكرا واشتباكا

فرج فودة
فرج فودة

الساعة السادسة و45 دقيقة مساء يوم الثامن من يونيو عام 1992، وبينما يهم الكاتب "فرج علي فودة" للخروج من مكتبة بشارع أسماء فهمي أحد الشوارع الرئيسية لحي مصر الجديدة هو وابنه الصغير استقبل وابل من نيران الإرهاب علي يد اثنين من المنتمين إلى الجماعات التكفيرية، أصيب الراحل بإصابات بالغة في الكبد والأمعاء، وفشل الأطباء في إنقاذ حياته على مدى ست ساعات متواصله.

الرجل الذي ملأ صمت البلاد فكرا واشتباكا وتجاربا، ليس بداية باستقالته من حزب الوفد بعد انحرافه عن مبادئه المدنية، إثر تحالفه مع الإخوان المسلمين في بداية الثمانينيات، ولا بقرار بخوض الانتخابات البرلمانية في مواجهة جحافل السلطة، الحزب الحاكم، المثقفين والمؤسسة الدينية الذين تكاتفوا لإسقاطه، ولا بتقديم أوراق حزب المستقبل كحزب سياسي مدني يطارد سلطات الإرهاب والاستبداد، ولا نهاية بالمناظرات الشهيرة في معرض الكتاب بالقاهرة وأتيليه الإسكندرية قبل اغتياله.

فرج فودة ابن الزرقا محافظة دمياط بدأ من قصر الثقافة باحثا قبل أن يعود إلى قصر الثقافة هناك كباحث ومفكر ومشاغب يناقش الأفكار ويحلل التجارب ويسمع الآراء مع شباب مدينته، مؤمنا أن الاشتباك مع المستقبل هو الحل، قرأ الواقع وحاول فهم المستقبل وحظر من خطر الكاب والعباية ودفع عمرة ثمن للقيم التي أمن بها برصاصات في سويداء القلب من رجل اعترف في التحقيق أنه لا يملك ملكة القراءة والكتابة.

قبل دقائق من انطلاقها في 8 يناير عام 1992، ضجت القاعة بالتكبير والحمد والثناء، وتعالت هتافات "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، الأمر الذي جعل الدكتور "سمير سرحان" محاور المتناظرين على مائدة الحوار إلى دعوة الحضور، وكان قد تجاوز عددهم الـ30 ألف شخص، وإلى الهدوء والإنصات لحديث الضيوف، ولكنهم ظلوا يرددون هتافاتهم قبل أن يتدخل مجددًا طالبًا الدعم من الشيخ محمد الغزالي أعلى قامة دينية موجودة، وطالبه بتكرار دعوته إلى الحضور بالهدوء لانطلاق المناظرة.

كانت المناظرة بعنوان "مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية"، وانقسم فيها الحاضرون إلى فريقين، الفريق الأول إسلامي التوجه ويضم الشيخ محمد الغزالي، ومرشد الإخوان وقتها مأمون الهضيبي، والمفكر المصري محمد عمارة.

أما الفريق الثاني كان يضم رموز التيار المدني فرج فودة والأستاذ محمد خلف الله أحد أعضاء حزب التجمع، في مناظرة أعدتها الهيئة العامة للكتاب ضمن سلسلة من المناظرات على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب.

كان تركيز الفريقين على الحديث حول الحكم والتاريخ الإسلامي وجدوى العلمانية تاريخ وحاضر في العالم العربي وانتهائها بالسلام، إلى أنها وضعت كلمة النهاية لحياة فرج فودة الذي أثارت أفكاره جدل كبير في حياته بعد التحريض الكبير ضده من قبل رجال دين والجماعات الاسلامية المتشددة.

أثارت كتابات فرج فودة جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، وشن علماء الأزهر والجماعات الإسلامية هجوما كبيرا عليه، وصلت إلى حد تكفيره والدفاع عن قاتله حيث قال الشيخ محمد الغزالي في شهادته في المحكمة "بأنه لم يتورط في جريمة قتل، بل طبق حدود الله على المرتد".

في المناظرة الأخيرة بلغت الاتهامات ذروتها، وبدأت المناظرة بكلمة للشيخ الغزالي ذكر فيها أهمية الحفاظ على الهوية الإسلامية وتبعه المستشار الهضيبي المتحدث باسم الإخوان الذي ركز على أهمية أن يكون الجدل والنقاش بين "الدولة الإسلامية" و"الدولة اللاإسلامية" مؤكدا "أن الإسلام دين ودولة وليس دينا فقط"؛ وخلال هذه الكلمات كانت الصيحات تتعالى والصرخات تشتد والحناجر تزأر وتخيف كل من يعترض على أحاديث الغزالي والهضيبي.

وكان فرج فودة آخر المتحدثين أمسك الميكروفون وبدأ كلماته بالرد وقال: "الإسلاميون منشغلون بتغيير الحكم أو الوصول إليه دون أن يعدوا أنفسهم لذلك"، مشيرًا إلى ما قدمته بعض الجماعات المحسوبة على الاتجاه المؤيد للدولة الدينية، وما صدر عنها من أعمال عنف وسفك للدماء، مستشهدًا بتجارب لدول دينية مجاورة على رأسها إيران قائلًا: "إذا كانت هذه هي البدايات، فبئس الخواتيم"، ثم قال للجميع "الفضل للدولة المدنية أنها سمحت لكم أن تناظرونا هنا، ثم تخرجون ورؤوسكم فوق أعناقكم؛ لكن دولا دينية قطعت أعناق من يعارضونها".

وتابع: "لا أحد يختلف على الإسلام الدين، ولكن المناظرة اليوم حول الدولة الدينية، وبين الإسلام الدين والإسلام الدولة، رؤية واجتهادًا وفقهًا، الإسلام الدين في أعلى عليين، أما الدولة فهي كيان سياسي وكيان اقتصادي واجتماعي يلزمه برنامج تفصيلي يحدد أسلوب الحكم"، لينهي كلمته بالدعوة إلى الله أن يهتدي الجميع بهدي الإسلام، وأن يضعوه في مكانه العزيز، بعيدا عن الاختلاف والمطامع".

بعد تلك الكلمات انطلقت صيحات الإسلاميين ونشرت جريدة النور الإسلامية التي كان بينها وبين فرج فودة قضية سب وقذف بيان من ندوة علماء الأزهر موقع من عدد من كبار الدعاة الإسلاميين في الدولة، يكفر فرج فودة ويدعو لجنة شئون الأحزاب لعدم الموافقة على إنشاء حزبه المستقبل.

بعد خمسة أيام فقط من بيان جريدة النور، انتظر شابان من الجماعة الإسلامية على دراجة بخارية أمام جمعية التنوير المصري التي كان يرأسها فودة، بشارع أسماء فهمي بمصر الجديدة حيث كان مكتبه وفي الساعة السادسة والنصف مساء، وعند خروجه من الجمعية بصحبة ابنه أحمد وصديقه، أطلقوا عليه الرصاص.

وبالتحقيق مع أحدهما أعلن أنه قتل فرج فودة بسبب فتوى دينية بقتل المرتد وحينما سأله المحقق، "لماذا قتلت فرج فودة؟ أجاب: لأنه ينشر كتبًا تدعو إلى الكفر والإلحاد، تابع المحقق: هل قرأت هذه الكتب؟، فأجاب القاتل: لا، أنا لا أقرأ ولا أكتب" وبسؤال القاتل عن اختيار موعد الاغتيال قبل عيد الأضحى، أجاب "لنحرق قلب أهله عليه أكثر".

أصدر الفتوى أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر "محمود مزروعة" أحد الشاهدين الرئيسيين في قضية اغتيال فرج فودة، ونفذها مسلحان ينتميان إلى الجماعة الإسلامية وفي شهادته أمام المحكمة قال مزروعة "إن اتصالا جائه من شباب يدعون انتماءهم لإحدى الجماعات الإسلامية، ويريدون استشارته في أمر عاجل، فحدد لهم موعدا، والتقاهم، فسألوه: "ما حكم المرتد" فأجاب: "قتله"، ثم سألوه: وإذا لم يقتله الحاكم؟، فأجاب قاطعا: يكون حكم قتله في رقاب عامة المسلمين".

واضاف: "فرج فودة أعلن رفضه لتطبيق الشريعة الإسلامية، ووضع نفسه وجنّدها داعيا ومدافعا ضد الحكم بما أنزل الله، وكان يقول: لن أترك الشريعة تطبق مادام فيّ عِرقٌ ينبض، ومثل هذا مرتد بإجماع المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلى هيئة تحكم بارتداده".

خلال مناقشات طويلة عقدتها المحكمة للتحقيق في مقتل فودة، طالت الاستجوابات عدد من المفكرين وعلماء الأزهر على رأسهم الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد الشعراوي وغيرهما، وفي شهادته في محكمته، قال الشيخ محمد الغزالي، "إنهم قتلوا شخصًا مباح الدم ومرتدًا، وهو مستحق للقتل، ففرج فودة بما قاله وفعله كان في حكم المرتد، والمرتد مهدور الدم، وولي الأمر هو المسئول عن تطبيق الحد، وأن التهمة التي ينبغي أن يحاسب عليها الشباب الواقفون في القفص ليست هي القتل، وإنما هي الافتئات على السلطة في تطبيق الحد، إن بقاء المرتد في المجتمع يكون بمثابة جرثومة تنفث سمومها بحض الناس على ترك الإسلام، فيجب على الحاكم أن يقتله، وإن لم يفعل يكون ذلك من واجب آحاد الناس".

ولم يكتف الغزالي بهذا بل كتب ونشر بيان مساند لمحمود المزروعة نائب رئيس جبهة علماء الأزهر، الذي دعا بشكل صريح إلى قتل فرج فودة، وقد وقع على بيان الدعم والتأييد لقاتل فرج فودة، إلى جانب محمد الغزالي، كل من: الشيخ محمد متولي الشعراوي، ومحمد عمارة وآخرون من أعضاء جماعة الإخوان، وجبهة علماء الأزهر.