رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد عكاشة: «لو تعبت نفسيًا هاروح لطبيب نفسي» (حوار)

الدكتور أحمد عكاشة،
الدكتور أحمد عكاشة، العالم المصرى الكبير


«معقولة أضيع ساعتين تلاتة من وقتى عشان أتفرج على ماتش كورة؟».. سؤال كثيرًا ما سأله الدكتور أحمد عكاشة، العالم المصرى الكبير لنفسه، مبديًا استغرابه من هؤلاء الذين يجلسون أمام الشاشات لمشاهدة «٢٢ لاعب بيجروا ورا كورة»، لكن كل ذلك تغير مع ظهور نجمنا محمد صلاح، المحترف فى صفوف ليفربول الإنجليزى.
فى السطور التالية، نتعرف على تفاصيل هذه القصة وغيرها من المشاهد «الإنسانية» فى حياة الرئيس السابق للجمعية العالمية للطب النفسى، وذلك فى حوار «غير تقليدى» يتحدث فيه عن هواياته وتفضيلاته فى الأدب والموسيقى والغناء، ويسترجع ذكريات دراسته الأولى فى كلية الطب بجامعة عين شمس، وكلية لندن الملكية فى بريطانيا.

■ كيف تخصصت فى الأمراض النفسية والعصبية رغم أنه كان مجالًا نادرًا؟
- عندما تخرجت فى كلية طب عين شمس، كنت من الخمسة الأوائل على الدفعة، ما كان يتيح لى العمل فى أقسام النساء والتوليد أو الرمد أو الجراحة، لكنى قررت التخصص فى الأمراض النفسية والعصبية.
عميد الكلية فى ذلك الوقت الأستاذ الدكتور يحيى شريف، وهو قريب لوالدتى، تحدث معها تليفونيًا وقال لها: «إزاى حد طالع من الأوائل ويدخل قسم ميدخلوش غير أواخر الدفعة؟»، كاشفًا لها عن عدم وجود قسم لهذا التخصص من الأساس فى جامعة عين شمس، وأنه يتطلب السفر إلى خارج مصر للحصول على شهادة خاصة به، فسألته والدتى: «إيه القسم ده؟»، فرد عليها بعبارة أكرهها جدًا: «ابنك عايز يتخصص فى المجانين»، فضحكت والدتى وقالت: «هو حر فى اختياره».
وبالفعل عملت نائبًا فى الأمراض النفسية، حتى حصلت على بعثة وسافرت إلى الخارج، وتحديدًا إنجلترا، خلال ستينيات القرن الماضى، حيث حصلت على الماجستير والدكتوراه من الكلية الملكية بلندن، فى مجال أمراض الباطنة، لأنه لم يكن هناك وقتها مجال باسم «الأمراض النفسية والعصبية»، وكان يندرج تحت قسم أمراض الباطنة.
■ ما الذى تعلمته خلال فترة دراستك فى الخارج؟
- كنت طوال الوقت أحاول الحفاظ على الانضباط والتنظيم والمثابرة، مع وضع الهدف المحدد الذى جئت لأجله أمامى، فحرصت على امتحان نفسى بنفسى بشكل يومى دون انتظار الامتحانات الرسمية، ووضعت لذلك جدولًا محددًا، ما ساعدنى على الاستمرار فى المذاكرة والتعلم، وجعلنى أشعر بالسعادة لأنى أؤدى واجبى دون أى تقصير.
وبالتزامن مع المذاكرة والاجتهاد، كنت أخرج وأحضر عروض أوبرا وباليه ومسرح وموسيقى، مع التركيز على أولوياتى التى عبرت عنها خلال حديث لى مع أحد أساتذتى بإنجلترا قائلًا: «لم آتِ إلى هنا كى أجلس وأنام، بل كى أتعلم وأحصل على شهادتى وأعود إلى بلدى لأخدمه بها».
وكنت الوحيد الذى عاش فى مستشفى معهد الطب النفسى فى إنجلترا لمدة ٤ سنوات، لمدة ٢٤ ساعة فى اليوم، حتى أرى المريض النفسى وأعرف عنه كل شىء، حتى يمكن القول بأنى «ارتبطت به عاطفيًا وبقى عندى مرض تعلق بهذا المريض».
■ ماذا حدث بعد عودتك إلى مصر؟
- عندما عدت إلى مصر وجدت عدم اهتمام بمرضى الطب النفسى، فلا أقسام أو عيادات أو حتى «سراير» لعلاجهم، وكان هناك خلط كبير بين «الطب النفسى» و«علم النفس»، وكان يطلق على أمراض الطب النفسى اسم «الأمراض العقلية»، ويقصد بها «الجنون» فقط.
لذا، وبالاستفادة مما درسته عملت ونجحت فى إدخال قسم «الأمراض النفسية» إلى كليات الطب فى مصر عام ١٩٦٤، لأول مرة، وتوليت رئاسته من ١٩٦٥ حتى ١٩٧٥، وصولًا لوضع حجر أساس «مركز الطب النفسى» بجامعة عين شمس، فى ١٩٨٤، الذى أنشئ بتبرعات المصريين، لأنه لم تكن لدينا ميزانية، والأرض التى أقيم بها كانت عبارة عن مقبرة تم نقلها إلى مكان آخر فى القاهرة.
■ استمرت مسيرة الدكتور أحمد عكاشة بعد ذلك.. ما أبرز محطاتها الأخرى؟
- فى عام ١٩٩٩، تم انتخابى رئيسًا لـ«الجمعية العالمية للطب النفسى»، كأول شخص من خارج أوروبا وأمريكا يتم انتخابه لهذا المنصب، ورغم مواجهتى العديد من الصعوبات والمؤامرات ضدى من الكارهين لرئاسة منتمٍ لبلد نامٍ لأهم جمعيات الطب النفسى فى العالم، التى تضم قرابة ٢٠٠ ألف خبير عالمى فى المجال، توليت المنصب إلى عام ٢٠٠٥، وحصلت على ميداليات ذهبية وفضية ودكتوراه فخرية من عدة دول حول العالم، بجانب جائزة الدولة للإبداع الطبى، وجائزة الدولة التقديرية وجائزة النيل ووسام العلوم من الطبقة الأولى.
وخارج مجال الطب النفسى، أشغل عضوية المجلس الأعلى للصحة، والمجلس الرئاسى لكبار علماء مصر، ومستشار الرئيس للطب النفسى، وأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا والمجلس الأعلى للجامعات بوزارة التعليم العالى، ومجلس إدارة صندوق الاستثمار القومى الخيرى للتعليم، الذى يهدف إلى إتاحة «وقف» يتم من خلاله الصرف على تطوير التعليم، وكل هذا لا أشارك فيه لمصلحة شخصية، لكن بسبب حبى وانتمائى لبلدى.
■ مَنْ صاحب الفضل الأكبر فى تلك المسيرة؟
- أنا محظوظ أن شقيقى الأكبر هو الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة ونائب رئيس الوزراء الأسبق، لأنه فتح عينى على التذوق الفنى، وأنا فى الخامسة من عمرى، من خلال موسوعته الأشهر «تاريخ الفن.. العين تسمع والأذن ترى»، التى تحدث فيها عن فنون النحت والتصوير والموسيقى والأساطير، فى حضارات العالم كافة، وكان يكتب بالقلم الرصاص بخط جميل جدًا، ويناقشنى فى كل كلمة يكتبها.
فى هذا الجو نشأت، حتى بعد زواجه فى سن ٢٠ عامًا فى بيت والدى، حيث كنت أجلس بجواره لسماع السيمفونيات العالمية، وكان لا يبخل علىّ بأى شىء، وبعد أن عُين ملحقًا عسكريًا فى باريس، كنت أسافر إليه وأزور برفقته كل المتاحف الموجودة هناك، لمدة ٣ أو ٤ ساعات فى اليوم، وكذلك فعل عندما عمل فى روما.
وعندما تولى وزارة الثقافة، كان يتصل بى ويناقشنى وأنا فى عمر ١٦ عامًا، ما أعطانى ثقة كبيرة فى نفسى، وأتذكر أنه عندما أنشأ «أكاديمية الفنون» سألنى: «ما رأيك فى تولى الأستاذ الدكتور مصطفى سويف أستاذ علم النفس الشهير رئاستها؟»، وكنت أنا من عرفه بـ«الأستاذ سويف».
تعلمت منه تذوق الفنون كافة، فمثلًا أنا لا أعزف الموسيقى، لكنه استطاع أن يجعلنى أتذوقها، ولا أقرأ الشعر لكنه استطاع أن يجعلنى أستوعب وأتمتع بقراءته، وكذلك الفلسفة والأدب.
■.. وماذا عن والدك؟
- والدى كان ضابطًا فى القوات المسلحة وصل الى درجة «لواء»، وكان آخر منصب شغله مدير عام سلاح حرس الحدود، وحاكم الصحراء الشرقية والغربية والمناطق الخاضعة للحكومة المصرية فى فلسطين، قبل رئاسة محمد نجيب لها، كما شغل منصب حاكم المنطقة الشمالية، وتعلمت منه الانضباط والإصرار والمثابرة والعدل.
■ ما الكتب المفضلة لدى الدكتور أحمد عكاشة؟
- أحب القراءة فى جميع المجالات، خاصة للألمانيين يوهان جوته وفريدريك نيتشه، وكل من حصلوا على جائزة «نوبل» فى الأدب أو الثقافة، وكذلك الروايات الأجنبية والمصرية، ولدىّ كل كتب نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقى، بجانب كتب الفيلسوف فؤاد زكريا.
وتأثرت كثيرًا فى شبابى بكتاب «أن تملك أو أن تكون»، للفيلسوف الألمانى الأمريكى إيرك فروم، الذى يشير إلى حقيقة فى غاية الأهمية، وهى أن غالبية الناس يفكرون فقط فى التملك، سواء سيارة أو مالًا أو زوجة، لكنهم ينسون أن «يكونوا»، من خلال ٥ حاجات هى: الانتماء والهوية والجذور وإعطاء الآخرين والهدف المستقبلى.
■ ماذا عن الموسيقى والغناء؟
- أميل إلى موسيقى القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا أتذوق ما يتذوقه الشباب فى الوقت الحالى، وأحب الفنان الكبير محمد عبدالوهاب، وكوكب الشرق السيدة أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وكنت أعرفهم شخصيًا.
■ ما علاقتك بالتصوف؟
- أحب قراءة كتب التصوف، لكنى لست متصوفًا، وأحب سماع الشيوخ النقشبندى ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد، وغيرهم من جيل العمالقة.
■ هل فكرت فى الذهاب إلى طبيب نفسى؟
- «لو تعبت نفسيًا هاروح لطبيب نفسى.. لكنى ما تعبتش لغاية دلوقتى».
■ أخيرًا.. ما حلم الدكتور عكاشة؟
- تصحيح الصورة المأخوذة عن المرض النفسى، وأنه ليست له علاقة بكل ما يثار حوله من «خرافات»، خاصة أنه ثبت أن المرض النفسى هو اضطراب فى بعض المراكز الدماغية والدوائر العصبية، وأن كل العلاجات سواء نفسية أو دوائية أو لتنظيم إيقاع المخ، تعمل على إزالة ذلك الاضطراب.
وأنشغل فى الوقت الحالى بحملة قومية لإزالة «وصمة» المرض النفسى وتوضيح الحقائق حوله، بعدما تبين لى من خلال الأبحاث والدراسات التى أجريتها، على مدى سنوات طويلة أن ٧٠٪ ممن يأتون إلى الطبيب النفسى يعترفون بأنهم ذهبوا لـ«العلاج الشعبى والدينى»، وأنهم سمعوا عبارات من نوعية: «حسد» أو «عين» أو «شياطين»، بينما توضح الحملة لهؤلاء المرضى أن المرض النفسى كأى مرض عضوى موجود فى الجسم، مثل السكر والضغط والقلب.
وفى القرون الوسطى، حتى فى أوروبا، كانوا يحرقون المرضى النفسيين اعتقادًا أنهم مصابون بـ«مس شيطانى»، وكان إيداع المريض مستشفى للأمراض العقلية ليس لعلاجه، لكن لإبعاده عن المجتمع، خاصة فى ظل عنفه، رغم أن ٨٥٪ من العنف فى العالم يرتكبه أشخاص طبيعيون، والذين يمارسون عنفًا من المرضى النفسيين ١٥٪ فقط.
كما أن المرض النفسى ليست له علاقة بالسحر أو الجن وغيرهما من «الخرافات»، وليست له علاقة بأى عادات، وهو المرض الوحيد الذى يمكن للمريض أن يشفى منه، بعكس أمراض القلب أو السكر مثلًا، التى يظل المريض مصابًا بها حتى مماته.