رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دولة مدنية لا علمانية


من يتابع المفهوم اللغوى أو التعريف العربى للدولة فهو كما يقول أحد العرب إن معنى دولة منشق من الفعل «دال» أى تحول الشىء من مكان إلى مكان والمعنى الآخر يدل على الضعف والاسترخاء والشىء الذى يتداول، والفعل دال أى انتقل من حال إلى حال، ودالت الأيام أى دارت الأيام والله يداولها بين الناس، وتداولته الأيادى.

والدولة فى المفهوم السياسى تتكون من ثلاثة عناصر هى «المكان والشعب والسلطة».

فلا دولة دون أرض محددة المعالم واضحة الحدود يعترف بها جيرانها من دول أخرى تقع على حدودها وهذا ما يطلق عليه تعبير إقليم الدولة، ثم فريق من البشر يقيمون على هذه البقعة من الأرض يمارسون حياتهم فى تضامن وتعاون يتمتعون بكل خيراتها وفى المقابل يدافعون عن أرضهم ويحمون حدودهم ويضحون بحياتهم إذا ما اعتدى على أرضهم.

أما السلطة فهى ما يطلق عليها بالتعبير السياسى الهيئة الحاكمة أو الحكومة التى يقيمها سكان هذه الأرض ويفوضونها فى إدارة شئونهم فتسعى لراحتهم وتتيح لهم الحرية والحياة الكريمة فى مقابل الخضوع والطاعة فى إطار القانون الذى تراضى عليه الشعب والحكومة.

والسؤال الذى يثار: هل هناك تعارض بين المدنية والدين؟

وقد أوضحنا فى المقال السابق مصطلح الدولة الدينية ومعناه أن تكون ديانة الشعب هى المحرك والمهيمن على أنشطة الدولة.

أما الدولة المدنية فهى تشير إلى المدنية وليس بمعنى الدنيوية بل معناها الخروج من البداوة إلى المدنية وإعمال القوانين الراقية بدلاً من القواعد والأحكام البدائية أو القبلية والعشائرية.

كما أن الدولة المدنية تعنى أنها غير العسكرية Civil والدولة المدنية لا تقصى الدين بأى حال من الأحوال وإلا كان سكان المدينة لا ينتمون إلى دين وان العسكريين ليسوا متدينيين.

ولما كانت مصر هى دولة عريقة التاريخ سبقت معظم الدول الحديثة التى عرفت النظم الحاكمة الحديثة والتى وضعت تعريفاً للدولة الحديثة بأنها «القوة الاجتماعية المنظمة التى تملك سلطة قوية تعلو قانوناً فوق أى جماعة داخل المجتمع وعلى أى فرد من أفراده ولها وحدها دون الأحزاب السياسية أو الفرق الدينية أو الكيانات الأخرى علمية كانت أو اقتصادية حق الحكم وعلى المواطنين الطاعة مع أهمية وجود توافق من عامة المواطنين على الهيئة الحاكمة، فهناك تعاقد غير مكتوب بين الحاكم والمحكومين وعلى طرفى العقد احترام الشروط التى تعلن فى شكل دساتير أو قوانين أو أعراف أصبحت جزءاً أصيلاً من حياة تلك الدول».

وكلما كان النظام السياسى واضح المعالم فيعرف الحاكم مسئولياته وواجباته ويعرف الشعب ما لهم وما عليهم، استقرت الأوضاع أما إذا كانت القوانين مترهلة والدساتير غامضة والأطماع شخصانية اهتزت المراكز القانونية وتحول التعاون إلى صراع والحقوق إلى إكراه وإجبار والواجبات إلى انتزاع بالقوة.

كما أن علماء الاجتماع يرون أن الشعوب فى الدول يتنازلون عن جزء من حقوقهم للحكومات لينالوا فى المقابل خيراً وفيراً وسلاماً واستقراراً وأمناً، فعلى الحكومة أن تحمى مواطنيها من عدوان دول أخرى وتمارس إعمال القانون بهدف العدل والخدمة والرعاية بجانب المحافظة على وحدة الدولة والدفاع عنها من أطماع خارجية أو من أى خطر داخلى يمكن حدوثه نتيجة الاحتكاك والحراك المجتمعى وصراع السلطات والعدوان على الحريات أو تهديد سلامة المواطنين من جانب مواطنين آخرين، وبقدر قيام الحكومات بواجباتها وتحقيق أهداف مواطنيها بقدر الاستقرار والاحترام الواجب من الشعب للحكومة وأى خلل يؤثر فى البنية الأساسية فى العلاقات الاجتماعية يؤدى حتماً إلى الثورات والانقلابات وخلع الحكومات أو تنحيتها أو مبادرة الحكام بالانسحاب من المشهد وترك الموقع لمن هم أكثر خبرة ومهارة وإدارة لقيادة السفينة، وتجدر الإشارة إلى الشكل المعروف بالدولة الدينية، والتى يكون دور حكومتها الرئيسى إقامة الدين وإدارة المجتمع وفقاً للتعاليم الدينية وأن تكون أولوية الإدارة هى الدعوة وإقامة الأحكام الدينية وحتى يتحقق هذا فإنها تضع بعض الأولويات بالمفهوم الدينى ومنها:-

الجهاد أى الدفاع عن الدولة أو حماية الدين والعقيدة من أى عدوان خارجى يهدد الدين والمعتقد ويعطل نشره حتى تكون كلمة الله هى العليا.

أما الأنظمة الاقتصادية والتى هى عصب الدول فمن المنظور الدينى يقوم الحكم على مبدأ التكافل الاجتماعى والتضامن والرعاية وجمع الأموال بما يعرف بالزكاة والخراج لينفق على الفقراء وغير القادرين، كما يسود على الدولة الدينية فى الإسلام مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويتقاسم النظام مع المجتمع أمر تطبيق القواعد المنظمة للحكم استناداً إلى الآية «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» آل عمران 104.

وفى عموم الأنظمة الدينية التى ظهرت فى العصور الوسطى فى أوروبا أو فى التاريخ القديم كالنظام الفرعونى أو فى الدول التى تسعى لتطبيق الأحكام الدينية فالحاكم فيها يتمتع بذات تقترب من الطبيعة غير العادية التى تفوق طبائع البشر، فهم من اختبروا بطرق غير عادية تجعلهم أكثر قربًا إلى الرتب الدينية العليا التى تفضلهم عن سائر شعوبهم، وقد عرف ذلك فى الغرب «بالحق الإلهى» فلا يعترض أحد على أقوالهم أو أفعالهم وعلى الكل أن يخضع لهم ويطيع أوامرهم حتى قيل إن الناس على دين ملوكهم.

ويبقى السؤال: هل الدين للدولة أم أن الدين هو للفرد والشعب أم أن دين الحاكم هو دين الدولة؟ وبذلك يخرج معنى الدولة من المفهوم السياسى إلى إطلاق الدين على الدولة، ونرى فى ذلك إساءة إلى الدين لا إعلاء له أو سيادة كاملة على الأفراد، فالدين ثابت الأحكام دائم الالتزام وأما الدول فهى متغيرة الدساتير والقوانين ويبقى الدين ديناً ونظام الحكم سياسة.

ليتنا نتطلع إلى دولة المواطنة حيث يسود القانون الذى يحقق الحرية الدينية ويحمى حقوق الجميع بلا استثناء أو تمييز واحترام التعددية وتداول السلطة سلمياً وتخضع السلطة للمحاسبة من قبل الشعب بواسطة نوابه.

حمى الله بلادنا وأدام نعمته عليها وعلى كل مواطنيها ليكون الجميع دعاة خير ورسالة حب وحماة سلام ونموذجاً يحتذى ويحترم.