رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد ثروت: الحيوان

جريدة الدستور

على الجانب الآخر من الشارع العريض، تتزاحم مخلوقات بشرية من هنا ومن هناك، دوائر متداخلة تشمل صبيانًا وفتيات، رجالًا ونسوة، وأطفالًا كثيرين، أعبر الشارع فى فضول أعرف أننى اتسمت به لأستطلع هذا الزحام؛ ربما منّت الحكومة علينا بقوارير زيت بنصف سعرها، الزحام الذى ينمو كل دقيقة ينبئ عن علب من التونة الزهيدة، أو أن الله تقبل دعوتى الأخيرة وعثرت فى شاحنة حكومية تبيع اللحم المستورد أو المجمّد. أدهشنى عدم وجود عربة ضخمة كشاحنات الحكومة المميزة بطلائها الرمادى، يقف أمامها وحولها المتزاحمون، كلما اقتربتُ كلما اتضح الزحام وازداد، وكلما اندهشتُ من عدم ظهور ما يزدحمون حوله، كانت الرءوس والأجساد تتضح وينقص معها اتضاح الموقف، لكننى مستعد لكل الاحتمالات، أملك قوة وخبرة تمكننى من اجتياز الزحامات، وأملك حافزًا، أربعة بطون تنتظرنى لا تكفى إطعامهم أجرتى الشهرية بأى حال، هذا حافز لا ينبغى تجاهله، بل يجب تقديمه فى أوائل الأمور ورءوس المواقف الصعبة.
كان كتفاى وذراعاى يزيحان الأجساد من حولى، بينما ترمى أقدامى نفسها للأمام بأى طريق وبكل طريقة، ولم يكن هذا عشوائيًا، بل كان تنفيذًا لتخطيط واعٍ مدرك للحدث؛ فيجوز لك أن تزيح طفلًا ضئيلًا أو عجوزًا متطفلًا من أمامك تمامًا، كما يجوز لك أن تقرص امرأة فتبتعد صارخة، أما الرجل الأصلع أو ذو الشارب فلتوجه له سؤالًا دومًا: «إيه الأخبار؟، أو الكلام على إيه؟»، أو فلتكتف أحيانًا بتحية كتحية قاطنى الشوارع وأصحاب الحرف الباهتة.
وصلتُ للدائرة الأكثر ضيقًا، ولم يكن فى مستوى ناظرى شىء، لكننى انتبهت لحظتها لارتفاع صوت النباح الذى كان رماديًا فى الخلف، فنظرت حالًا نحو مصدر الصوت لأجد كلبًا مقيدًا من رقبته بسلسلة حديدية صدئة غليظة، تمتد حتى عمود النور الذى يبدو ضخمًا خلف الكلب، ويبعد عنه نصف متر تقريبًا، ثم تلتف السلسلة حول العمود مرات عديدة ينهيها قفل حديدى لامع، الكلب ينبح بصوت هادئ للحظات ثم يصمت مطأطأً رأسه نحو الأرض؛ لا يفهم ولا أفهم أنا.
لمّا سألتهم كانت الحكايات تزيد فهمى غموضًا، لا أفهمها، قالوا إن صاحب الكلب تعرض لهجوم من فتيان يعادونه، دافع الكلب عن صاحبه، عضّ المهاجمين وجرحهم، أنقذ الكلب رجُله من خمسة فتيان، لكن المهاجمين وأهليهم ينشدون الثأر، يجب أن يسلّم صاحب الكلب كلبه لهم.
الكلب كان جروًا وصاحبه كان طفلًا، لعبا وكبرا سويًا، أنقذ الكلبُ الرجلَ وسيسلمه صاحبُه لمن يقتله؟، إن لم يمنحهم الكلب عاقبوه هو، كاد الكلب أن يضحى بروحه من أجل صاحبه فعليًا، لقد أراد هذا حين هاجم الأعداء، أى غم هذا يا الله؟، أيُقتل أحدهما ليستقيم الأمر وتستمر الحياة؟.
تعالت صيحات القوم تدريجيًا «هووه.. هووه»، قلدهم الصغار المنتشرون كقطيع أرانب متسخة، واتحدت الصيحات فى صيحة غليظة متكررة «هووه.. هووه». فى أقل من لحظة اندفع أحدهم بسكين طويل مقوّس ضاربًا به ظهر الكلب وجزءًا من رقبته، فارتفع نباح الكلب صارخًا، لكن الصبى جوارى لم يمهله لحظة أخرى واندفع فى رشاقة وثقة يخبط بساطور عريض قفا الكلب، كان الكلب يعوى وينبح، تدور عيناه فى كل مكان باحثًا عن شىء ما أو شخص ما، كانت عيناى مفتوحتين لأقصى حد، نبضات قلبى تعلو العواء والصيحات الوحشية، الكلب يدور بسرعة حول نفسه وحول العمود، يحاول مهاجمة الضارب فيقذفه صبى بكتلة خشبية مليئة بالمسامير، أو ترشقه امرأة بحجر، يهاجم ويدافع ويدور، بينما عيناه لا تكلان من البحث بين الحشد الرهيب.
كأنما ابتسم الكلب لوهلة، نظر نحو شخص ما، كان شابًا منزويًا وسط الدائرة الأخيرة، لا أعرف كيف اكتشفتُ أن شعاع عين الكلب تتجه نحوه، مؤكد أن الكلب يعرفه، مؤكد أن هذا مالك الكلب وصاحبه، كان الكلب يبدو فرحًا هادئًا رغم العذاب الأليم، تلمع عيناه وتمتد قوائمه لاحتضان طفولى منتظَر، حين نظرت لصاحب الكلب أشاح برأسه بعيدًا عن المشهد، ثم أدار جسده وذهب.
كان عواء الكلب هذه المرة لا يبدو من الألم، يبدو كبكاء طفل تركته أمه لضباع وحشية، يدور ويدور، حول نفسه وحول العمود، ينظر لمكان صاحبه ويعوى بغم شديد، وهم يضربونه بعصى وأسلحة بيضاء.
بركة دماء لزجة لمست أصابع قدمىّ متخللة الحذاء الرقيق، لم يستمر المشهد أكثر من دقيقتين، أنهاه طفل بحجر ضخم فوق رأس الحيوان الصامت.