رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسالة من عم بيرم إلى أسد قصر النيل


منذ عشرات السنين انتقد الشاعر الجميل بيرم التونسى، حالة الفوضى التى كانت تسود شوارع القاهرة فى الأربعينيات، فأنشد قصيدته الخالدة التى يقول فى مطلعها: هاتجن يا ريت يا خوانا مارحتش لندن ولا باريز.. دى بلاد تمدين ونضافة وحاجة تغيظ..
مالقيتش جدع متعافى وحافى وماشى يقشر خس
ولا شحط مشمرخ أفندى معاه عود خلفه ونازل مص
لا الشارع غيط يا خوانا ولا إحنا بدارى ولا إحنا معيز
كان عم بيرم لاذعا- بمقاييس عصره- فى نقد حالة الفوضى فى الشارع المصرى، لكن ماذا لو عاد اليوم ورأى ما نعيشه من فوضى؟ هل سيصاب بسكتة قلبية أم يُنقل للعلاج فى مصحة نفسية؟.
ماذا لو رأى عم بيرم هذا البائع الذى أقام نصبة لبيع حمص الشام أو «الحلبسة» تحت أسد قصر النيل، نصبة كاملة عبارة عن قدر وأنبوب بوتاجاز وأكواب يتم غسلها فى الجردل، أقامها هذا البائع لمدة سنة- ويقال سنتين- فى واحد من أهم المواقع السياحية فى القاهرة، وعلى بعد أمتار من دار الأوبرا.. كم من السياح رأوا هذه المهزلة؟ وهذه العشوائية التى تشوه معلمًا من معالم القاهرة، وماذا كان انطباعهم؟.
لكن السؤال الأهم كيف لم تره عيون مسئولى الحى أو المحافظة؟ وكيف تجاهلته عيون شرطة السياحة أو أى إدارة من إدارات الشرطة؟ ولماذا لم يتحرك أحد إلا بعد نشر الصورة على مواقع التواصل الاجتماعى؟.
حكاية بائع «الحلبسة» جزء من حالة الفوضى الرهيبة التى تحيط بنا، والتى تصدمنا والسياح الذين تراجعت أعدادهم مع شديد الأسف ونتمنى عودتهم، ولكننا لا نعرف كيف سنبرر لهم إذا عادوا أسباب السكوت عن هذه التجاوزات غير المبررة، فى حركة السيارات وعبور المشاة، وهذه الضوضاء الرهيبة فى شوارعنا.
لا أعرف كيف يمكن أن نفسر لماذا أصبح القانون الوحيد السائد فى شوارعنا مبدأ البقاء للأقوى.. أو للأكبر حجمًا؟ فسيارات النقل والأتوبيسات والميكروباصات تفرض إرادتها على الجميع، تزاحم السيارات الصغيرة وتتحرش بها، وتلاحقها بالكلاكسات المزعجة نهارًا والأنوار المقلقة ليلًا.. وقد تصدمك سهوًا أو حتى عمدًا، وويل لك إذا اعترضت على سائقها فقد يضربك أو يسبك.. وقمة البطولة أن تظل على قيد الحياة إلى أن تحضر الشرطة، إذا تمكنت من الحضور وسط هذه الطرق المختنقة ليلًا ونهارًا.
والمؤسف أن السيطرة فى الطريق العام لم تعد ملكًا للأكبر حجمًا فقط، بل أصبحت أيضًا فى يد الأصغر حجمًا، بشرط أن يمتلك الوقاحة والبجاحة والصوت العالى.. وأكبر دليل على ذلك سيطرة سائقى التوك توك والسيارات «التُمْناية» على الطريق ومزاحمتها الجميع.. بالبجاحة والرذالة والبلطجة.. وإياك أن تعترض فقد تفاجأ بسنجة أو سيف فى وجهك.. وقد تنزف كثيرًا قبل أن تصل الشرطة.. هذا إن وصلت!!.
باختصار هى حالة من الفوضى الرهيبة، لا يدركها بشكل جيد وواضح إلا من غاب سنوات طويلة عن شوارعنا، وعاد ليجد أن الشوارع لم تعد للملتزمين بالقانون أو بالأخلاق، بل أصبحت للأكثر بجاحة ورذالة وبلطجة.. ولا أحد يعرف لماذا يغيب القائمون على تنفيذ القانون عن الشارع، ولماذا لا يقومون بواجبهم تجاه الذين يكسرون أنف القانون.. حتى أصبح الحال يشير إلى أن البقاء لم يعد لصاحب الحق، بل هو للأشرس والأعنف، وصرنا نعيش فى «حارة كل من إيده إله» كما يقول إخوتنا السوريون.. أو فى حارة «كل اللى يقدر على حاجة يعملها» !!.
لا أعتقد أن القانون فى شوارعنا غائب، لكنه مغيب بفعل فاعل أو أكثر. فمنذ سنوات ونحن نشكو من ظاهرة التوك توك، الذى يسير فى شوارعنا بلا أرقام وبلا تراخيص.. ويرتكب سائقوه العديد من الجرائم التى تتنوع بين السرقة والتحرش والبلطجة، ومع هذا تتزايد أعداده عامًا بعد عام، ويتم استيراده من المنافذ الشرعية، ورغم إصرار الإدارة العامة للمرور على عدم إصدار تراخيص له، فما زال يسير حتى فى الطريق الدائرى وصلاح سالم، وأكبر الميادين، ولا أعرف السر الحقيقى لإغماض عيون رجال المرور عنه؟.. مع ثقتى الكاملة بأنه لو صدر لهم قرار حازم، لأوقفوا هذه المهزلة خلال يومين أو ثلاثة على الأكثر.
الحقيقة أن ما نراه فى شوارع القاهرة قد جاوز مداه، وهو يحطم أعصاب المارة وسائقى السيارات، ومن المؤكد أنه يثير سخرية السياح والزوار الأجانب حتى وإن لم يعبروا عن ذلك بشكل صريح.. والحكمة تقول إن «من أمن العقوبة أساء الأدب».. وهو ما يفسر حالة التبجح والتمادى لدى سائقى الميكروباص و«التُمناية» والتوك توك وسيارات النقل.. فهم لا يرون ما يجبرهم على الالتزام بالقانون.. أو احترام قوانينه وقواعده. لو عاد عم بيرم اليوم، ورأى ما يحدث فى شوارع القاهرة، هل سينشد قصيدة جديدة، يتندر فيها على الفوضى، أم يعلن فيها غضبه واستنكاره لحالة الاستهتار من السائقين بأرواح المارة وسائقى السيارات الصغيرة؟، ماذا سيقول عم بيرم عن «التوك توك» الذى يُستورد كل عام بأعداد كبيرة لصالح رجال أعمال، رغم أنه غير مسموح رسميًا بسيره فى الشوارع؟، ماذا سيقول عم بيرم لعفاريت الأسفلت أو سائقى الميكروباص، وكيف سيعتذر لأسد قصر النيل على ما أصابه من مهانة على يد بائع «الحلبسة»؟.