رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو والمعادلة الاستراتيجية الإقليمية والدولية


الذى لم ير هذه الحشود الهادرة بعيـنى رأسه فـقـد فـقـد بصيرته أيضا، فإنها لا تعـمى الأبصار ولكن تعـمى القلوب التى فى الصدور، هذه الثورة لا بد أن تؤثر فى المعادلة الاستراتيجية الإقليمية والدولية وهو ما سنتناوله فى المقالات القادمة بإذن الله.

فرضت التفاعلات التى سبقت وصاحبت وأعـقبت ثورة 30 يونيو نفسها كأكثر الأحداث أهمية عـلى المستوى المحلى والإقليمى والدولى، حيث تميزت بسرعة وكثافة تراكمها، حتى أثارت جدلا واسعا صاحبه ردود أفعال متباينة، فقد توالت ردود الأفعال العربية والإقليمية والدولية على المستويين الشعـبى والرسمى، حيث دار هذا التباين حول ما إذا كان هذا الحدث إلهاما يُعـتبر ثورة شعـبية أم انقلابا عـسكريا على الشرعـية ، خاصة عـقب البيان الذى ألقاه الفريق أول عـبد الفتاح السيسى الذى أعـلن فيه عـزل الدكتور مرسى وتسليم السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية العـليا كرئيس مؤقت للبلاد ، لذلك ينبغى أولا تأصيل وتوضيح مفاهيم هذه المصطلحات الثلاثة «الثورة الشعـبية ـ الانقلاب العـسكرى ـ الشرعـية» قبل أن نتناول تأثير هذه الأحداث بالغة الأهمية فى المعادلات الاستراتيجية للقوى الفاعلة عـربيا وفى النسقين الإقليمى والدولى.

ولتأصيل مفهوم الشرعـية فإنه يمكن الاسترشاد بما تناوله «لوك» الذى يُعـد من أوائل علماء الاجتماع السياسى، حيث توصل إلى تحديد مفهوم سيادة الشعـب وخضوع الحكام لإرادة الشعـب باعـتباره أساس السيادة ومصدر السلطات، وذهب «جان جاك روسو» إلى القول بأن الإنسان قد اتفق مع غـيره على حتمية إقامة نظام اجتماعى يقوم على التوافق المجتمعى، ويمكنه صيانة جميع الحقوق والمصالح، ويعـنى ذلك أن الإنسان قد تنازل عن بعـض حرياته لسلطة ما ينشئها فى المجتمع، فى مقابل أن يتمتع بحريات أخرى «الحريات المدنية» يقوم على حمايتها وصيانتها بتوفـيـر الأمن وحفظ النظام فى المجتمع، ويعـنى أيضا أن الشعـب هو المنشئ لهذه السلطة وبالتالى فهو أساس السيادة ومصدر السلطة، ويمكن إيجاز رؤيـة روسُو فى أن سيادة الشعـب كلٌ لا يتجزأ ولا تغـتصب ولا يمكن الـتـنـازل عـنها، ولكن يمكن أن يُعـهد بها الى سلطة لإدارة شئون المجتمع وفقا لعـقد اجتماعى يبرم بين الحاكم والشعـب لإدارة شئون الأمة، فالشرعية إذن تنصرف إلى خضوع الحاكم والمحكوم لجميع الأسس والمبادئ والقواعـد والأعراف والقوانين التى يتم تطبيقها على الجميع دون انتقائية لتحقيق مبدأ العـدل والمساواة وفقا للعـقـد الذى تم إبرامه، وعلى الحاكم أن يدرك أنه اسـتـمـد سلطانـه من إرادة جموع الأمة باعـتبارها مصدر السلـطات وأساس الـسيـادة، وأن العـقـد الاجتماعى الذى أبرمه معهم لإدارة شئون الدولة يستند إلى إرادتهم، فإذا ما أخل الحاكم بما جاء فى العـقد جاز لهم فسخه، وبالتالى فإن جموع الأمة هى التى تمنح شرعـية اختيار الحاكم، وأن هذه الجموع نفسها هى التى تملك حجب شرعـية استمرار هذا الحاكم، أما المشروعـية فتنسحب عـلى الممارسات والتصرفات والقرارات التى يتخذها الحاكم وفقا للقاعـدة القانونية، وتقاس المشروعـية بمدى رضاء جموع الأمة عـن هذه الممارسات وتلك التصرفات.

ولتأصيل مصطلح الثورة الشعـبية ينبغى ملاحظة أنه مصطلح مركب «الثورة والشعـب» والثورة‮ بمعـناها ‬الدقيق‮ فى اللغة‮ اللاتينية تعـنى «الظاهرة الطبيعـية لحركة النجوم الدوارة» ‬أى أن الثورة عـبارة عن مصطلح فلكى‮ ‬الأصل اكتسب أهميته عندما استخدمه العالم الفلكى‮ الشهير‬ «كوبرنيكوس»‮، أما فى اللغة العربية فينصرف معـناها إلى الفعـل ثار أى غضب وهاج، ويُعد‮ ‮‬أرسطو‮ من أوائل الفلاسفة الذين تناولوا مفهوم الثورة فى دراسته للثورات،‮ ‬وقدم أول محاولة شاملة لدراسة الثورة،‮ ‬وأفرد لها حيزاً‮ ‬كبيراً‮ ‬من مؤلفه الشهير‮ ‬«السياسة»، وقد تطور مفهوم مصطلح الثورة على يد عـلماء الجيوبوليتيك والعلوم السياسية ومختلف العلوم الإنسانية، فأصبح يُستخدم كتعـبير للدلالة على تغييرات فجائية وجذرية تتم في‮ ‬الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في‮ ‬مجتمع ما،‮ لتغـيير النظم الاجتماعية‮ ‬أوالقانونية أو الاقتصادية أو السياسية القائمة بنظم أخرى،‮ ‬وقد‮ ‬يتم هذا التغيير بصورة فجائية وربما بصورة عـنيفة‮ أيضا، ‬كما استخدمه بعض المفكرين للتعـبير عن التغـييرات الجذرية فى مجالات ‬أخرى كالعلم والفن والثقافة،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬يشير إلى أن الجوهر المقصود من مصطلح الثورة هـو‮ إحداث التغـيير‮ فى نظام قائم للتعبير عن عدم رضا المجتمع، وترتيبا على ذلك، يمكن تأصيل مفهوم مصطلح الثورة بأنه‮‬ «التغييرالجذرى في‮ ‬البنى المؤسسية فى مجتمع ما،‮ ‬الذى ينتج عـن الاعـتراض الشديد عـلى الأوضاع القائمة لاستبدالها بأوضاع جديدة‮ ‬تتوافق مع مبادئ وقيم وأيديولوجية وأهداف الثورة،‮ ‬وقد تكون الثورة سلمية، وقد تكون عـنيفة، وربما تكون دموية، وغالبا ما تكون فجائية سريعة التفاعلات».

أما مفهوم الانقلاب العسكرى فيندرج تحت مفهوم التحرك المدبر والمفاجئ لعـناصر من القوات المسلحة لدولة ما، يخطط له بمهارة عالية وسرية تامة ويٌعـد لإنجاحه بعـناية فائقة، بغـرض قلب نظام الحكم القائم والاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة، دون تفويض من جموع الأمة، ودون سند من الشرعـية والمشروعـية، وبتحليل هذا المفهوم إلى عـناصره الأولية، يمكن أن نخلص إلى أنه ينصرف إلى أربع خصائص تميزه عن مفهوم الثورة، فهو يتميز أولا بأنه تحرك مدبر تم التخطيط والإعداد له بعـناية فائقة وسرية تامة بواسطة عـناصر من القوات المسلحة ، ويتميز ثانيا بأن هذا التحرك لا بـد أن يكون مفاجئا لنظام الحكم وجموع الشعـب حتى يتوفر له عوامل النجاح، ويتميز ثالثا بأنه يهدف إلى قلب نظام الحكم القائم والاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة، ويتميز رابعا بأنه إجراء يفتقر إلى الشرعية والمشروعـية يفتقر إلى تفويض جموع الأمة وربما يفتقر أيضا إلى رضاء هذه الجموع.

والآن بعـد توضيح وتأصيل مفاهيم الشرعية والمشروعية، ومصطلح الثورة الشعبية، والانقلاب العسكرى، فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو: لأى المفاهيم تنتمى التفاعلات التى سبقت وصاحبت وأعـقبت أحداث 30 يونيو ؟ هل تنتمى إلى مفهوم الثورة الشعبية؟ أم تنطبق عـليها خصائص الانقلاب العـسكرى على نظام الحكم والشرعية؟ وللإجابة على هذه التساؤلات ينبغى الإشارة إلى أن هذه الأحداث قد بدأت قبل شهرين تقريبا من 30 يونيو بفكرة أحسبها عـبقرية بالرغم من أنها تتسم بالبساطة البالغة، استطاعت أن تربك نظام الحكم، وتمكنت من تجميع أكثر من 22 مليون وثيقة لسحب الثقة من الرئيس وحددت 30 يونيو لبدء فعاليات الثورة، حيث شهد هذا اليوم حشودا هائلة قُدرت بأكثر من 33 مليون متظاهر يعـبرون عن عدم رضاهم وغضبهم من تصرفات وممارسات نظام الحكم، وقامت القوات المسلحة بإعطاء مهلة للجميع لإحداث التوافق المجتمعى اللازم لحماية الأمن القومى من التهديدات والمخاطر فى جميع الاتجاهات الاستراتيجية الثلاثة، وأعلنت المؤسسة العسكرية أنها خارج دائرة الحكم والسياسة، لكن مسئولياتها التاريخية والقيمية والوطنية تملى عليها حماية المتظاهرين السلميين، وقامت بتسليم السلطة مؤقتا إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا، فهل يُعـد ذلك انقلابا عـسكريا؟

وصفوة القول، فإن الواقع يشير إلى أن العالم بأسره كان إزاء نموذج رائع لمفهوم الثورة الشعـبية، قدمت فيه جموع الأمة المصرية نموذجا فريدا فى التعـبئة والحشد السلمى لعله لم يحدث فى تاريخ البشرية، أما الذى لم ير هذه الحشود الهادرة بعـينى رأسه فـقـد فـقـد بصيرته أيضا، فإنها لا تعـمى الأبصار ولكن تعـمى القلوب التى فى الصدور، هذه الثورة لا بد أن تؤثر فى المعادلة الاستراتيجية الإقليمية والدولية وهو ما سنتناوله فى المقالات القادمة بإذن الله.. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

■ أستاذ العلوم السياسية- جامعة بورسعـيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.