رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عقل منتدى الشباب «3»

ميلاد حنا يروى: كيف دخل المصريون الإسلام؟

جريدة الدستور

 "الدستور" تنشر كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية»


يدور المحور الرئيسى لفعاليات منتدى شباب العالم هذا العام حول رؤية مستوحاة من كتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» للدكتور ميلاد حنا، إذ يهدف بكتابه المميز إلى تأكيد وحدة النسيج المجتمعى المصرى، رغم تباينه واختلافه.

وانطلاقًا من تلك الرؤية كانت الدعوة إلى عقد جميع فعاليات المنتدى فى إطار تلك الأعمدة والرؤية المبهرة للمجتمع المصرى الذى استطاع على مدار عصور طويلة أن يكون مركزًا للتواصل بين مجتمعات عدة.

وينطلق منتدى شباب العالم فى نسخته الثانية فى الفترة من ٣ لـ٦ نوفمبر المقبل بـ«أرض السلام» شرم الشيخ، تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى. هنا فى «الدستور» ننشر، عبر حلقات متتالية، النص الكامل لكتاب المفكر الكبير، ونبدأ بالعامود الأول وهو «الانتماء الفرعونى».

العامود الرابع.. العصر الإسلامى
لكى نتعرف على خلفية هذا المزج والتداخل والمودة الموجودة الآن بين الأقباط والمسلمين، لا بد أن نتدارس قليلا هذه الرقيقة المهمة والأخيرة من الرقائق الحضارية الأربع، وبالذات ذاك الأسلوب المتميز الذى كان مصاحبًا لدخول الإسلام إلى مصر، وكيف أنه مختلف عن أسلوب الغزو والفتح بحد السيف، الذى تم فى أقطار أخرى كثيرة، إذ إن هذه البداية واستمرار العلاقة الوطنية والتآخى بين أبناء الوطن الواحد، جاءت ثمرة واستمرارًا لنقطة البداية عند الفتح، فضلًا عن الأسلوب المتميز فى العلاقات الاجتماعية الاقتصادية طوال هذه القرون الأربعة عشر التى تعايش فيها الإسلام والمسيحية على أرض مصر، على الرغم من أنها لم تكن كلها «سمن على عسل»، بل مرت بأوقات عصيبة أمكن تجاوزها، واستمرت الديانتان فى ود ومعايشة قرونًا طويلة ناطحت الزمن وقاومته مقاومة أهرامات الجيزة.
ويسجل د. وليم قلادة سليمان فى كتابه «المسيحية والإسلام على أرض مصر»، النصوص التاريخية لهذا الحدث حول دخول العرب إلى مصر من خلال وثائق أربع مختلفة كالآتى:
أ- شهادة عبدالرحمن بن عبدالحكم القرشى المصرى مؤرخ الفتح الإسلامى، إذ يقول «كان بالإسكندرية أسقف القبط يقال له أبوبنيامين فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع ويأمرهم بتلقى عمرو، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانًا».
ب- شهادة ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين ومؤرخ كتاب «بطاركة الكنيسة القبطية» فقد كتب بعد نحو أربعة قرون من هذه الواقعة يقول:
إن سانوتيوس «الذى كان من رؤساء الأقباط وتولى شئون الكنيسة مدة اختفاء البطريرك بنيامين» عرف «عمرو» أمر الأب المجاهد بنيامين البطريرك، وأنه هارب من الروم خوفًا منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمال مصر كتابًا يقول فيه «الموضع الذى فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنًا مطمئنًا ويدير حال بيعته وسياسة طائفته، فلما سمع القديس بنيامين عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاثة عشر عامًا.. ففرح الشعب كله بمجيئه».
وذهب سانوتيوس وأعلم عمرو بوصوله، وحينئذ أمر بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة، فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه: «إن فى جميع الكور التى ملكناها إلى الآن ما رأيت رجلًا يشبه هذا».
وكان الأب بنيامين حسن المنظر جدًا، جيد الكلام بسكوت ووقار، ثم التفت إليه عمرو وقال: «جميع بيعك ورجالك اضبطهم ودبر أحوالهم» وانصرف من عنده مكرمًا مبجلًا.
ج - جاء فى تاريخ الأنبا يوحنا أسقف شبشير، الذى كان معاصرًا لأحداث الفتح الإسلامى «أن عمرو لم يأخذ شيئًا من أموال الكنائس ولم يرتكب عملًا من أعمال السلب والنهب وأسبغ عليها الحماية طوال مدة حكمه».
د - جاء فى كتاب سير القديسين والمسمى «السنكسار»، والذى يتلى منه عادة فصل يناسب كل يوم فى صلوات الكنيسة، وذلك فيما يتعلق بسيرة الأنبا بنيامين وظروف حياته ما يلى:
«وقرب عمرو بن العاص رؤساء الأقباط، وأحسن معاملتهم. فاتجه هؤلاء إلى إصلاح شئون الكنيسة التى كان قد اختل نظامها وتفرق شملها. فتقدموا إلى ابن العاص وأعلموه خبر اختفاء البابا بنيامين، طالبين عودته إلى كرسيه، فاستدعاه ومنحه الحرية وأعاد له الكنائس التى كان قد اغتصبها البطريرك الملكى البيزنطى، وأمره أن يتصرف فى أمورها كما يريد، فاستطابت لذلك قلوب المسيحيين وشكروا حسن صنيع عمرو إليهم».
ويبدو أن عمرو بن العاص كان متفهمًا ومقدرًا موقف المصريين الأقباط من ترحيبهم به لسخطهم على النظام البيزنطى، وأتصور بمفهومى كسياسى، أنه لا بد أن يكون قد قطع على نفسه وعودًا بأن يترك الأقباط وشأنهم فيما يتعلق بالعقيدة الدينية، فضلًا عن أنه قد خفف الضرائب عن الأهالى.
وتنفرد مصر بأن لها علاقة مع الإسلام منذ الأيام الأولى، إذ يروى المؤرخون أن الرسول قد بعث برسائل إلى الحكام البارزين فى ذلك العهد فى السنة السادسة من الهجرة، وكان من بينهم مقوقس مصر.
وكلمة «مقوقس» يونانية الأصل، وتعنى «حاكم» وكان العرب يسمونه «عظيم القبط». أما اسمه الأصلى فكان «جرجس بن مينا» وهو مصرى رغم جذوره اليونانية منذ عهد البطالمة.
وفى تلك الحقبة كان الفرس قد داهموا مصر، واستولوا عليها بالفعل لمدة عشر سنوات قتلوا خلالها ٨٠ ألف مصرى و٧٠٠ راهب ودمروا ٦٢٠ ديرًا.
وعندما وطد هرقل حكمه فى بلاد الشام، ترك المقوقس يحكم مصر، ولكنه كان يميل إلى الأقباط من اضطهاد البيزنطيين كما سبق القول.
ومن المعروف أن المقوقس قد أرسل هدية إلى «الرسول» جاريتين ودابتين وعسلًا وثيابًا وأن «الرسول» قد تزوج من «مارية القبطية»، وقد ولدت «إبراهيم» الذى مات قبل أن يبلغ ستة عشر شهرًا.
أما «أخت مارية» فقد تزوجها «جهم بن قيس العبدرى» وهى أم «زكريا بن جهم» الذى كان خليفة «عمرو بن العاص» فى حكم مصر.
وهكذا توجد لمصر علاقة خاصة ومتميزة منذ فجر الإسلام، ولكن بسرعة تحول الإسلام إلى قوة سياسية وعسكرية هائلة، ولذلك فإن الحكام العرب فى نشوة انتصاراتهم وفتوحاتهم وفى السنوات الأولى من عهد الخلفاء الراشدين، لم يحاولوا أن يفرضوا الدين الجديد مع الغزو ذاته، إذ كان هدفهم الأساسى تثبيت أقدام الحكم فى المناطق المفتوحة ثم تجهيز الجيوش لتوسيع الإمبراطورية الإسلامية.

وكما دارت صراعات فكرية شديدة فى القرون الأولى للمسيحية حول «طبيعة المسيح» وحقيقة الكلمة «اللوجوس»، وقد ألمحنا إلى ذلك فيما سبق، كذلك دارت صراعات فكرية أدت على حروب وصراعات شديدة فى العالم الإسلامى، من خلال ما يعرف بحركتى الخوارج والشيعة، ورغم أنهما أخذتا شكل الخلافات المذهبية والتفسيرات لما جاء بالقرآن والأحاديث، ولكنهما فى جوهريهما كانتا صراعًا بين ما يمكن أن يسمى «مدرسة العروبة» و«مدرسة الإسلام». فالخوارج قامت حركتهم على أن الخلافة أو الإمامة أو الإمارة على المؤمنين ليست وراثية، وإنما تحق لمن تختاره الجماعة، أيًا كان «ولو كان عبدًا أسود»، ولذا تجدهم لا يعترفون بالخلافة فى عصر الراشدين، إلا لأبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، حيث البيعة واضحة وصريحة ومؤكدة، أما عثمان بن عفان فقد اعترفوا بشرعية خلافته فى السنوات الست الأولى منها، وكذلك اعترفوا بخلافة على بن أبى طالب حتى معركة صفين، وقد وصل فكرهم من الحدة والنقاء معًا إلى «تكفير كل من حاد عن تعاليم الإسلام»، إذ يعدونه «مرتدًا» وجزاؤه القتل أو «الاستعراض» وهو ما يشار إليه الآن بمصطلح «الاغتيال الدينى»، ورغم أن دعوة الشيعة قد بدأت مثل الخوارج دعوة إلى الشعوبية أى الشعوب الإسلامية غير العربية، وتمثل احتجاج أبناء الأمصار المفتوحة على احتكار قريش قيادة الأمة الإسلامية، ولكنهم انتهوا سياسيًا بعقيدة تخالف الخوارج لأنهم قاتلوا من أجل أن تكون الإمامة مقصورة على أهل بيت الرسول وهو الذى يعرف أن الإمام وحده من بعد الرسول «باطن الدين وجوهره» وهو وحده الذى يتأتى له التفسير والتأويل.
ولا أود أن أسترسل فى سرد تاريخ الفكر الإسلامى. فهذا يخرج عن نطاق هذه الدراسة لأن مقصدى وهدفى الرئيسى منها، التعرف على تأثير الإسلام على الشخصية المصرية عبر التاريخ وفى مراحله المختلفة.
على أن الأمر الذى استوقف نظرى عند قراءتى تاريخ هذه الحقبة، هو أن المصريين «الأقباط» لم يشتركوا لا فى قليل أو فى كثير فى الصراع الحاد بين الفرق المختلفة. فلم نسمع أنهم منحازون إلى الخوارج أو إلى الشيعة، فلا هم كانوا مع العراق وأهل الكوفة ولا انحازوا لأهل الشام ودمشق. وأتصور أنهم قد اتخذوا هذا الموقف غير الطبيعى والذى يخالف مواقفهم السابقة فى المرحلة الفرعونية أو المرحلة المسيحية، وذلك من وجهة نظرى للأسباب الآتية:
أولًا: استمر المصريون لا يتحدثون إلا اللغة القبطية قرونًا طويلة بعد دخول العرب إلى مصر، ولذلك فإن تتبعهم للصراع حول التفسيرات المختلفة للقرآن والسنة خصوصًا فى القرن الأول للهجرة، لم يكن بالعمق والفهم الكافيين، فى وقت لم تكن هناك سبل نشر الفكر إلا من خلال التجمعات فى الأسواق أو أماكن العبادة، ولذلك لم يدرك المصريون أبعاد ما جرى حولهم فى البلدان العربية أو الصراعات بين رق الإسلام المختلفة، مكتفين بأنهم قد تخلصوا من اضطهاد بيزنطة.
ثانيًا: حتى أولئك الذين كانوا على بينة من الأمر، وهم بالتأكيد قلة من المثقفين ومن يعرفون القراءة والكتابة أو كانوا قريبين من الحاكم، آثروا الصمت والسلامة، فقد عانوا طويلًا من خلال الصراعات المذهبية فى القرون الأولى من المسيحية، واستمر اضطهادهم بسبب تمسكهم بمذهب «الطبيعة الواحدة».

استمرت السنوات تجرى طوال فترة حكم الخلفاء الراشدين، وهى فترة وجيزة جدا على أى حال. فقد قتل على بن أبى طالب عام ٥٤٠م وأسس معاوية بن أبى سفيان الدولة الأموية، واتخذ دمشق عاصمة للخلافة واستمر الحكم الأموى من عام ٤٠ هـ «٦٦١م» حتى ١٣٢هـ «٧٥٠م» وتولى الخلافة فى تلك الحقبة ١٢ خليفة، ويناظرها فى ولاية مصر ٢٥ واليًا «فى عهد الدولة الأموية وحدها» وربما كان أهمهم هو «عبدالله بن عبدالملك بن مروان بن الحكم» «٥٨٦-٧٠٥م إلى ٥٩٠ - ٧٠٩م» إذ إنه قد أصدر أمرًا بأن تكون محررات الدواوين بالعربية، وكانت حتى عهده تكتب لو اضطر الأمر بحروف قبطية، أى أنه حتى نهاية حكم الأمويين كانت الديانة المسيحية هى الغالبة بوضوح، كما كانت اللغة القبطية هى السائدة بوضوح فى المعاملات والحوار بين الكافة.
وتولى بنو العباس مقاليد الخلافة الإسلامية فترة طويلة جدًا امتدت من «١٣٣هـ - ٧٥٠م إلى ٦٥٦هـ - ١٢٥٨م»، ومرت بمراحل كثيرة متغيرة ومختلفة وبلغت الدولة العباسية أوجها فى عهد هارون الرشيد، وتولى مصر فى عهد الدولة العباسية ٩٦ واليًا بما فيها محاولات الاستقلال فى عهد ابن طولون والإخشيد.
ورغم أنه توجد علاقة أكيدة بين تحول المصريين من المسيحية إلى الإسلام، وتحولهم من اللغة القبطية إلى اللغة العربية، إلا أننا سنكتفى هنا بأن نوضح فى إيجاز كيف تحولوا من المسيحية إلى الإسلام، وكيف استمرت الديانتان معًا، وفى معايشة لنحو أربعة أو خمسة قرون، ولكن الأمر المثير للدهشة، أن المصريين جميعًا «مسلمين ومسيحيين»، قد تحولوا جميعًا من اللغة القبطية إلى العربية فى ذات المرحلة والفترة، إلى أن تقهقرت اللغة القبطية، وأصبحت متداولة فى الأديرة والكنائس فقط، وسنعود إلى ذلك فيما بعد عند الحديث عن «الانتماء العربى لمصر».
وهناك نظريات وآراء كثيرة عن الأسباب التى دعت المصريين المسيحيين وعبر قرون أن يتحولوا من المسيحية إلى الإسلام نذكر منها:
أولًا: يبدو أن الخلافات المذهبية المعقدة التى أثيرت عبر المجامع المسكونية، كما سبق التفصيل، قد أوجدت حالة من البلبلة وعدم الفهم عند المواطن البسيط العادى، وبدلًا من صراعه مع سلطة الإمبراطورية الحاكمة والقابضة حول أن «للمسيح طبيعة واحدة أم طبيعتين»؟ وجد إجابة جاهزة وسهلة ومباشرة فى شعارات الإسلام البسيطة أن «لا إله إلا الله» وأن «لا كهنوت فى الإسلام».
ثانيًا: عند دخول المسيحية مصر، تكونت الكنيسة كتنظيم سرى تحت الأرض يدعو للتبشير بها، كأنه حركة تحرر «فانتشرت المسيحية بسرعة وفى يسر، حسبما ذكرنا قبل ذلك، وكجزء من الاحتجاج على الاضطهاد الرومانى وكجزء من حركة تحرير العبيد».
ثالثًا: رغم البداية الرائعة لملابسات دخول عمرو بن العاص إلى مصر، ولكن مع استقرار الحكم وتتالى الخلفاء فى دمشق وبغداد، ظهر بعض قرارات وتعليمات تعامل الأقباط كذميين، فالخليفة العباسى المتوكل «فى ديسمبر ٨٦١م» أمر بإجبار أهل الذمة على لبس الطيالسة العسلية والزنانير، وأن يضعوا على رءوسهم القلانس المختلفة الألوان.
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن مثل هذه الإجراءات التى طبقت على قبط مصر، كان الولاة يتساهلون فى تنفيذها فى معظم الأحيان، وأن التمسك بها كان يقل تدريجيًا حتى وإن تم تنفيذها بدقة وقت صدورها، وأن هذا الأمر صحيح ثابت تاريخيًا «من هنا ظهر المثل الشعبى: الغربال الجديد له شدة».
رابعًا: لقد أدرك الفلاح المصرى، أن الإسلام فى صوره الأولى البسيطة لا يفرض «مؤسسة دينية دنيوية»، وأن العلاقة الدينية ستكون مباشرة بينه وبين ربه، مما يسمح له بأن ينقل معه إلى الإسلام ما يستهويه من طقوس وعادات من ديانته القديمة سواء تلك التى مارسها فى المسيحية أو تلك التى أخذها معه عبر الفرعونية والتراث القديم.
إن ثقة المصرى البسيط المتدين، قد اهتزت عبر التاريخ فى مؤسساته الدينية، فقد عرف أن كهنة آمون قد تحالفوا مرات متعددة مع الفاتحين والغزاة، فقد رحبوا بالإسكندر لتخليصهم من الفرس، ونصبوا بطليموس الأول فرعونًا من نسل الآلهة مقابل المحافظة على أملاكهم ومعابدهم ورد ما نهبه الفرس منها، ثم تحالفوا بعد ذلك مع ولاة الإمبراطورية الرومانية، وذلك فى سبيل الحفاظ على امتيازاتهم ومصالحهم وبدعوى الإبقاء على المعتقدات والمعابد، ومن ثم هرع المصريون القدماء إلى المسيحية فى بحر فترة زمنية قليلة، وكأنهم ينتقمون من المؤسسة الدينية التى تخلت عنهم.
وعندما دخل العرب مصر، قامت المؤسسة الدينية مرة أخرى التى تحولت إلى المسيحية بالتحالف والخضوع للفاتحين، وكان ذلك بدعوى إنقاذ الكنيسة من اضطهاد هرقل إمبراطور بيزنطة، وآمنت الكنيسة نفسها ومصالحها وأديرتها، ولذلك وتحت ضغوط أخرى سبقت الإشارة إليها، برر المصريون الأقباط لأنفسهم التخلى عن المؤسسة الدينية والانضمام إلى الدين الجديد الصاعد، الذى يعطى أصحابه مميزات من ضمنها أنه لا يحتوى على «مؤسسة دينية قابضة ومسيطرة».
وأن هذه الدولة المركزية التى يسيطر عليها الوالى وتملك كل شىء، قد أوجدت على مر العصور والقرون حالة من الخضوع والسلبية ما زالت آثارها موجودة حتى الآن، وكان ذلك مثار تعليق وتندر كثير من الكُتّاب والمفكرين نذكر منها بعض العينات:
يرى أرنولد توينبى أن الفلاح المصرى على مر التاريخ، كان ينظر إلى ممثلى السلطة وعلى رأسهم حاكم الدولة، نظرة إجلال بلغ حد التأليه والتقديس. ولذلك كان يذعن لأوامرهم بصورة شبه مطلقة، وأصبحت طاعة الحاكم وكل من يمثله واحدة من أبرز صفات الفلاح المصرى.
ويصل الباحث المصرى كمال المنوفى، إلى ذات النتيجة وبتبرير مماثل، فيرى «أن الفلاح المصرى يتصور أن الثورة على الحاكم المسلم، مهما بلغ جوره، شىء مرذول، وذلك عملًا بفتوى الإمام أحمد بن حنبل القائلة بأنه على الرغم من أن الحاكم لا يطاع فى معصية، فإنه لا يجوز الخروج عليه، لأن ذلك يعنى استبدال الأمن بالخوف وإثارة الفتن والعنف وتهديد كيان الأمة ووحدتها، ولذلك فإنه من الحكمة أن تصبر الرعية على جور الحاكم عملًا بحكمة وجوب تحمل أخف الضررين».
أما عباس محمود العقاد، فكان له رأى مختلف، من منطلق أن الإنسان المصرى ينظر إلى السلطة نظرة الشك والريبة وليس التقديس والخوف، وأن الفلاح يرتبط بالأمة والحياة القومية عن طريق روابط الأسرة التى تشكل له ضمانًا ما ضد القسوة والظلم. وأن الفلاح كان دائمًا متحفزًا للتغيير، غير أن الفلاح فى ثورته يريد أن يرى الصفوف حوله ولا يحب أن يخاطر وحده.
وهذه الصفة للجماعية فى العمل، هى ظاهرة مصرية واضحة فى كل رقائق الحضارة على تتاليها، لأنها نابعة من ظروف الحياة وواقعيتها، فالعمل فى القرية عمل جماعى والعمل فى الغيط والحقل، مشاركة بين الرجل وزوجته وأولاده، وأعمال الرى والسيطرة على الفيضان، لن تتم إلا من خلال تنظيم جماعى على مستوى الدولة المركزية، وحماية الرقعة الزراعية من غارات البدو لم يكن من الممكن تحقيقها دون تعاون بين جملة قرى.
ولذا فإن الشخصية المصرى لا بد أن تكون «تجميعية تجمعية»، تسعى لأن تقف على المصلحة المشتركة والأرضية التى تجمع ولا تفرق.
ورغم أن هناك روايات كثيرة حول ظروف وأسباب وملابسات التحول إلى الإسلام، إلا أن هناك شبه إجماع على أن مصر لم تبد كبلد ذى أغلبية إسلامية إلا فيما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، كما أن انتشار الإسلام كان فى الوجه البحرى أولًا، ثم امتد إلى الصعيد. أما بلاد النوبة فقد ظلت مسيحية بأكملها حتى القرن الرابع عشر، وكل ذلك يعنى أن تعايش الديانتين استمر داخل آلاف العائلات ولقرون طويلة، وهذا ما أوجد هذه الألفة التى نلمس استمراريتها حتى الآن، وهو الأمر الذى حرصنا على إبرازه فى فصل سابق.
وإذا كانت قد مرت على مصر فترات اضطهاد لسبب أو لآخر. فالملاحظ هو أن الاضطهاد لم يكن مقصورًا على الأقباط وإنما عند وجود موجة اضطهاد بسبب توجهات من الخليفة أو تعليمات من الوالى، فإن الاضطهاد كان عامًا وشاملًا المصريين جميعًا.
والوجه الآخر المنطقى، أنه كلما كان الخليفة أو الوالى أكثر سماحة وقلل من الضرائب على المصريين جميعًا، كان الشعب كله أكثر رضا، وفى تلك الفترات كان الاضطهاد على الأقباط غير واضح أو ملحوظ، بل كانوا ينعمون بحرياتهم فى ممارسة طقوس ديانتهم فى وقت لم يكن فيه أمر حقوق الإنسان مطروحًا أو معروفًا.
وفى هذا الأمر كان الأقباط «كأقلية ذمية» فى ظروف أفضل بكثير من الأقليات أو الملل المماثلة فى باقى أنحاء الدولة الإسلامية. ولعل ذلك كان راجعًا إلى طبيعة الأقباط الصبورة والمتحملة، والتى كانت تقبل الاضطهاد المحتمل دون ضجر واضح، فضلًا عن وجود نصوص مأثورة توصى بقبط مصر خيرًا.
ومن قراءاتى ولما هو متاح من معرفة بالتاريخ، لاحظت أن الحقبة الزمنية الطويلة من عام ٦٤١م الفتح العربى لمصر حتى ٩٦٩م عندما دخل جوهر الصقلى الفسطاط، وهى فترة تمتد لما يزيد على ٣٠٠ سنة، كانت فترة رتيبة بطيئة مملة، ونعرف عنها أقل القليل، وفيها ومن خلالها استسلم المصريون وقبلوا بالأمر الواقع. فقد استقبلوا العرب ليسوا كفاتحين ولكن كمنقذين لهم من نير الرومان، فإذا بهم يحكمون بعشرات من الولاة المتعاقبين والغرباء عن البلاد، فكان هناك ٦ ولاة فى فترة الخلفاء الراشدين وأعقبهم ٢٥ واليًا فى عهد الخلافة الأموية، وتلا ذلك ٩٦ واليًا طوال فترة الدولة العباسية ومجمل القول إنه فى خلال الفترة من ٦٤١م إلى ١٢٥٨م تولى فيها ٢١٣ واليًا حكم مصر، أى بمعدل نحو ثلاث سنوات للوالى، وبقراءة جدول ولاة مصر، كانت مدة حكم بعضهم عدة أيام أو أشهر وامتدت لآخرين سنوات معدودة.
ومنذ حكم الإسكندر حتى حكم عبدالناصر، عاش المصريون على أمل التغيير إلى الأفضل. فكلما سمعوا بوفاة إمبراطور أو خليفة أو والٍ، كانوا يتوقعون حكمًا أعدل وظروفًا أحسن. وفى النهاية ومع كثرة التغييرات استسلموا للأمر الواقع.