رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهوية المصرية وبناء الشخصية


من الواضح اهتمام الرئيس السيسى خاصة منذ بداية ولايته الرئاسية الثانية ببناء الشخصية المصرية، كما وضح ذلك فى خطابه فى البرلمان عند حلفه اليمين الدستورية وكذلك أثناء مؤتمر الشباب السادس بجامعة القاهرة، رابطًا ذلك بالتركيز على أهمية وتأثير الهوية المصرية والتمسك بها.. وهنا يظل سؤال طارحًا نفسه هو: ما هى الهوية المصرية؟.
الهوية هى بطاقة التعارف التى تحمل أهم البيانات عن شخصية صاحب البطاقة حتى يمكن التعرف عليه ويمكن التعامل معه بناء على هذه المعلومات الأساسية، وهوية مصر هى هوية صنعها الإنسان المصرى عبر التاريخ ومن خلال خبرات المصرى الحياتية التى جاءت، وكانت نتيجة لعوامل الجغرافيا وحكم التاريخ وصلابة ونضال المصرى، ممزوجة بسمات شخصية خاصة وذاتية بنت الزعامة والمكان والمكانة المصرية، ولذا من الطبيعى أن تكون الهوية المصرية هى بطاقة الهوية الخاصة لكل مصرى يحمل الجينات المصرية التى يتشارك أكثر من سبع وتسعين فى المائة من المصريين فيها بالرغم مما شاهدته مصر من غزوات حربية وهجرات جماعية وصلت إلى اثنتين وخمسين غزوة وثلاث هجرات جماعية، ولتأثير الجغرافيا مع سمات الشخصية المصرية وبقدرية أن تكون مصر هى صانعة الحضارة ومكتشفة الدين والتدين وباعثة الضمير الإنسانى تكونت وتشكلت الشخصية الحضارية المصرية إفرازًا وإنتاجا لحقبات حضارية صنعها المصرى فى الوقت الذى شكلت أيضا فيه الوجدان والإحساس وطبيعة الشخصية المصرية، والشخصية الحضارية المصرية هى العنوان الرئيسى للهوية المصرية. فهذه الشخصية تكونت عبر تراكم حقبات تاريخية، كان أهمها تأثيرا الفرعونية واليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، فكل حقبة من هذه الحقبات مهدت وشكلت وصنعت حالة تواصل حضارى بين الحقبات تواصلت وتكاملت، حيث إن هذه الحقبات وتلك الحضارات هى صناعة وإبداع الإنسان المصرى المبدع والصابر والمتدين والمرتبط بالأرض والمنتمى للوطن مع تعدد الأزمنة واختلاف العقائد وتباين الأفكار، ولكن كان ولا يزال هناك رافد الثقافة المصرية العامة الذى تصب فيه كل الروافد الثقافية الفرعية، فكانت التعددية فى إطار الواحد، وبالرغم من التعددية فى الثقافة والعادات والتقاليد والانتماءات الفرعية فهذه التعددية نجدها ظاهرة فى إطار المجال الخاص «قرية - حى- مسجد- كنيسة- إلخ» ولكن ما يخص المجال العام الوطنى بكل مكوناته وتداخلاته تجد الهوية المصرية الواحدة والجامعة القابعة فى الضمير الجمعى المصرى هنا، فأين المشكلة؟ المشكلة هى التمسك المتطرف والتفسير الطائفى والتقوقع الممقوت بهدف المتاجرة وإثبات الذات وادعاء البطولة وذلك لمصالح خاصة وذاتية حول بعض الحقبات، مسقطة باقى الحقبات كنوع من اجتزاء وتجزئة مجمل التاريخ الواحد الممتد والمتواصل أو إعلاء وتعلية انتماء قبلى أو طبقى أو جغرافى أو جهوى أو دينى على باقى الانتماءات ليس فى المجال الخاص، وهذا وارد، ولكن فى المجال العام، بل الأخطر هو أن يحاول هؤلاء تعميم وفرض هذا التوجه وذلك الانتماء، ليس على المجال العام، وهذا مرفوض بل محاولة فرض هذا على باقى المجالات الخاصة كنوع من سحق الهوية المصرية الجامعة لصالح هويات وثقافات خاصة هنا، فكل مصرى، أيًا كان انتماؤه، لديه حصيلة حضارية غير مرئية من كل الحقبات التاريخية مع الوضع فى الاعتبار طبيعة زيادة الجرعة تجاه حقبة دون سواها، فمثلا انحياز المسيحى للفرعونية والقبطية تصوير أو ادعاء أنها ملكية خاصة له دون غيره من المصريين كنوع من التمايز الحضارى عن غيره المنتمى فرعيا ودينيا لحضارة أخرى بدوية، وانحياز المسلم للحقبة الإسلامية، رافضا ومسقطا بل مكفرا وناسفًا كل الحقبات السابقة، هنا هؤلاء يتوهمون بفكر منغلق طائفى رفض وإسقاط الحقبات الأخرى مما يؤدى إلى إسقاط وعدم الاعتراف بالهوية المصرية الجامعة وما رأيناه فى عام الإخوان من محاولة إسقاط الهوية المصرية لصالح هوية لا علاقة لها بمصر شكلا ولا موضوعا، حيث كان رد الفعل هو إسقاط الجماعة من مجمل المصريين دلالة على تأكيد الجينات المصرية الجامعة ونرى فى الجانب الآخر من يتمرسون ويتخندقون حول الحقبة الفرعونية والقبطية، الشىء الذى يكرس التفتت والتشرذم ويعمق المناخ الطائفى، حيث إن هاتين الصورتين هما تكريس وتفعيل طائفى لتاريخ وهوية مصر، حيث يريدون محاصرة التاريخ والهوية حول الخاص ولصالحه بعيدًا عن العام. هنا لن تبنى الشخصية المصرية على أساس متين وعلى أرضية تاريخية صحيحة، بعيدا عن أسس ومعطيات الهوية المصرية الجامعة ونتيجة لهذا السلوك الطائفى والذاتى نجد نتائج سلبية قوامها عدم قبول الآخر الدينى والقبلى والجهوى والجغرافى.. إلخ. هنا هل يمكن أن تكون لدينا شخصية مصرية منتمية فاهمة لتاريخها معتزة بمجمل حضارتها؟ لا، ولذلك نجد أن المجالات الخاصة، وأهمها المسجد والكنيسة وبكل وضوح وصراحة «حبا فى هذا الوطن وحفاظا على هويته وأملا فى توافقه وتوحده» يكرسون الانتماء الدينى، وهذا طبيعى ومطلوب ولكن فى الوقت ذاته هذا التكريس وذلك الأسلوب فى غياب المناخ العام الوطنى الجامع والقابل للآخر، يكون هذا الخطاب الدينى على حساب توحد الوطن فهل الانتماء الدينى يجعلنى رافضا للآخر الدينى؟ وهل هذا يجعلنى مصرا على إسقاط التاريخ أو محاولة السيطرة على التاريخ، أى السيطرة وتشكيل الهوية المصرية على أرضية الخاص لا العام؟ هنا لا نستغرب أن نشاهد هذه السلوكيات وهذا النشاز وتلك الفوضى وتدنى الأخلاق وانتشار الفساد فهذه لم تكن ولن تكون سمات الشخصية المصرية، فلنلحق بالزمن ولنحمِ الوطن ليس فى إطار الأمنيات ولا عن طريق الشعارات ولكن بالإيمان والخوف والانتماء لهذا الوطن الذى لن يتقدم بغير إعادة الشخصية المصرية إلى طبيعتها التاريخية الصحيحة. على الجميع تدارك ذلك بتصحيح الفكر الدينى الإسلامى والمسيحى بلا خجل ولا مواربة، فكفى استفادة ومتاجرة بالدين، فلا تواجد ولا نجاح بغير الوطن الذى يعتمد على شخصية مصرية محترمة نباهى بها العالم كله كعادتنا.