رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكد أن الحصاد الأدبي والفني للثورات لم يؤت ثماره بعد

إبراهيم عبد الفتاح لـ "الدستور": العامية الجديدة تعاني ردةً فنية

إبراهيم عبد الفتاح
إبراهيم عبد الفتاح

* النثر هو الرقص دون خبرات سابقة
* مصر خالية من أي مشروع غنائي ولدينا فقط "دكاكين" للاسترزاق
* البيئة الثقافية عدائية تفضل المتهافت التافه أو أصحاب السلطان
* أغنياتي حبيسة الأدراج والمطربون أصبحوا يغنون علينا وليس لنا


عن الجنوح والتوق والأحلام وحتى الجروح فى العيش والوطن والشعر ومعاناة القصيدة فى أُطر المَغْنى والمعْنى.. عن القصيدة الشعرية العامية النثرية والأغنية ودور الكلمة فى الدراما المغناة.. يتحدث الشاعر إبراهيم عبد الفتاح خارجًا عن عزلة طويلة؛ اختارها كي لا يكون مجرد رقم عابر في ساحة يرسمها أصحاب الأرقام، وهو أمر لم يكن غريبا عليه، فقد راهن مثلا في الغناء علي كلمته وإبداعه، وعاهد نفسه منذ البداية ألا يطرق بابا لمنتج أو لمطرب، أو يكتب لأصوات غير سليمة مهما بلغت نجوميتها.

يبوح "عبد الفتاح" في حواره لـ"الدستور" عن إحباطات جيل الوسط الذي ينتمي إليه، ويكشف كيف انهار آخر خط دفاع عن الأغنية المصرية.. وإلى نص الحوار:


* أين أنت من الحالة الشعرية والغنائية؟
ـ في الغناء راهنت علي من لم يراهنوا حتي علي أنفسهم، وأجزم أن مصر خالية من أي مشروع غنائي، لدينا فقط "دكاكين" للاسترزاق، وكان بإمكان جيل الوسط أن يصنع الفارق، لكن النقلة النوعية التي أحدثها سرعان ما أدار ظهره لها، وهذا هو منطق "السوبر ستار" لدينا؛ إذ ينسب الفضل في النجاح لصوته فقط، ويعتقد أنه يفهم في السياسة أكثر من السياسي، وفي الشعر أكثر من الشاعر؛ وهذا مناخ يسمح لكتاب الأغاني بتسيد المشهد، وثمة فارق بين كاتب غنائي وشاعر غنائي، ولهذا صارت الكلمة هي أضعف عناصر الأغنية، وحين استشرافي لهذا بدأت الحفر باتجاه الغناء الدرامي مبكرا، ووجدت أرضا خصبة لم يُكتشف منها سوي اليسير، وللأسف سرعان ما هجم كتاب الأغاني علي السوق الدرامي بعد أن أغلقت شركات الإنتاج أبوابها في أعقاب ثورة الإنترنت وما تبعها من قرصنة، فانهار آخر خط دفاع عن الأغنية المصرية؛ لم تعد الكلمة تشغل المغني بقدر ما يعنيه تركيبة الإيقاع ثم اللحن، أما فرسان الرهان الذين يمتلكون حضورا قويا وأصواتا سليمة فصاروا يخافون من الشعر وهم في سبيلهم لمغازلة القوي الشرائية.

* هل تؤثر الأجواء السياسية والمعيشية في حضور ونتاجات الشاعر تحديدا.. وكيف نرصد هذا في حالتك؟
ـ يتأثر المبدع بالضرورة بكل حراك سياسي أو اجتماعي، ناهيك عن البيئة الثقافية العدائية وما تخلفه من قهر حين تغبن حقك، وتفضل عليك كل متهافت تافه أو صاحب سلطان؛ مثلا.. نسبة كبيرة من جوائز الدولة ذهبت لمن لا يستحق، هل تتخيل أني طوال ما يزيد عن ثلاثين عاما لم أنل جائزة أو تكريما ولم أمثل بلدي ولو مرة في أي محفل!

طبعا.. لا أسوق هذا المثال هنا بحثا عن أية جوائز أو مكاسب، بل ولم أتقدم بطلب؛ ففي ذلك إهانة لا أقبلها، الجائزة التي لا تُشبهُني "تَشبهني" ـ يقصد من الشبهة ـ وفي مناخ هكذا يصعب الإبداع، ويصير دربا من الجنون، لكنه الجنون الوحيد المحتمل والذي عليك أن تشارك به كى تنجو بعقلك، أنا فقط أتمدد علي جمر قصيدتي القادمة ولن أسخط نفسي لإرضاء أحد.

* أنت واحد من أبرز الشعراء الذين حافظوا على إيقاع قصيدة النثر العامية بنكهة حداثية يكاد يقترب محتواها من القصيدة النثرية الفصيحة.. كيف تحقق تلك المعادلة؟
ـ أشكر تقديرك وأثمنه؛ غير أني لا أحسب نفسي في مقام بعيد عن مجايليّ أو من تلانا من أجيال، كما أني لا أحسب الفصاحة قاصرة علي لغة دون سواها، فقط أحاول كتابة لغة مصرية راهنة، أما بخصوص النثر فقد بدأت محاولاتي مبكرا، وتحديدا في العام 1978، في قصيدة عنوانها "وحل المداين" وقصائد أخري تمت الإشارة إليها عبر دراسة للأديب سمير الفيل، نشرت بمجلة "أدب ونقد" في مطلع التسعينيات، ومنها:
"الموجة دي والاّ حليب البحر للرمل الرضيع
نهجت الموجة الأخيرة قبل ما تحضن رغاويها الرمال
وانا في الحنين للرمل باتخطاك
يا كاهن بيرمي ضفتينه فـ جمر ذعري
ويسحب جتة الرطوبة فـ جتتي
بعد ما يطمن حواري الجنس
يجري مفكوك العبايا
جسمي بيحتفل بفروة السراير".
كنت أبحث عن لغة عارية أو قل جارحة، وأخوض مغامرة تحرير العامية من فخ الأيديولجي، واكتشاف آفاق مخبأة ضمن جماليات المتاح، وما حملته إلينا الشفاهة؛ عبر الحكمة والأمثلة الشعبية وما توارثناه من سير وملاحم، كنت أعيد السؤال بحثا عن إجابة جديدة، وأعرف أنه لن يتحقق سوي بزلزلة الثوابت وتبديل القناعات، وتحرير صوتي أولًا من كل ما علق به من أصوات، وما زلت أبحث عن قصيدتي، خاصة وأن العامية الجديدة باتت تعاني من ردة فنية فرضها الحراك السياسي، وما أعقبه من ظواهر ليس آخرها "شعر الحفلات" والذي يكتب بسلطة وذائقة المتلقي.

* كتبت عشرات الأغنيات لمطربي الجيل، وتحديدا علي الحجار.. فكيف تنظر للساحة الغنائية من خلال تجربتك العملية؟
ـ شاركت في مضمار الأغنية علي استحياء؛ لم أطرق بابا لمنتج أو لمطرب، ومنذ البداية عاهدت نفسي ألا أكتب لأصوات غير سليمة مهما بلغت نجوميتها.. إنتاجي قليل بهذا الحقل؛ فقبل الحجار تعاونت مع وجيه عزيز وطارق فؤاد ثم توالت الأعمال، لكن في الأخير أجد أن أغلب ما ساهمت به كان وفق ما هو ممكن؛ ما من نجم يبارك المغامرة، ولهذا بقيت أغنياتي التي أردتها حبيسة الأدراج.

نحن للأسف نقدس عبادة النموذج؛ كل مطرب يريد أن يشدك إليه ولا يروقه أبدا حتي أن نلتقي عند نقطة مشتركة.. الآفة تكمن في أنهم أصبحوا يغنون علينا وليس لنا، فاكتفيت بكتابة مقدمات المسلسلات وبعض أغاني الأفلام.

* كيف تنظر للتجليات الرائجة في الأشعار الغنائية في دراما المسلسلات في سنوات ما بعد ثورة يناير 2011؟
ـ أعتقد أن الحصاد الأدبي والفني للثورات لم يؤت ثماره بعد؛ الكتابة عن ذلك تنبع من منطقة باردة، حين تفقد تحيزك لتوجهاتك وتنأي تماما عن المنطقة الساخنة.

* وماذا عن مفاهيمك الذاتية عن الوطن والحرية والإبداع في كافة مساراته؟
ـ "نمنا طويلا يا أبي فتغيرت فكرة الوطن".. ظني أنه لم تعد هناك أوطان بفكرتها الكلاسيكية، لقد وضعتنا العولمة في معادلة وحيدة قسمتنا إلي طغاة وثوار، في ظل هذا لا يمكن لقلبي أن يطمئن لنبضه، ولا تستطيع روحي أن ترضخ لدهشتها، ولا أستطيع أن أنتمي إلي جدار؛ أكتب نفسي لأكتشفها وأحيانا بحثا عن شفاء.

* أخيرًا.. كيف يجد إبراهيم عبد الفتاح البراح كشاعر حالم ومتمرد في آن واحد؟
ـ البراح يكمن فيما هو إنساني، ولن تجد حرية يحدوها المجاز والبلاغة القديمة، البراح يكمن في النثر، النثر هو الرقص دون خبرات سابقة، رغبة عارمة نحو التعرى، التخلص من مساحيق الكذب، والنثر هو القبلة التى تقطع الكلام كلما زاد عن الحد.