رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبد الشافي يكتب: كيف خطفني شوبان من عبدالوهاب وياسين التهامي؟

أشرف عبد الشافي
أشرف عبد الشافي

وقد فشلتُ فشلًا ذريعًا فى التعامل مع الكلاسيكيات الموسيقية العالمية، أين أنا من شوبان وموزارت وبيتهوفن وتشايكوفسكى والحاجات دى كلها؟! تلك ثقافة الرفاهية التى لا تضيف متعة قدر ما تضيفها بهجة صوت الست حورية حسن، وهى تقف فى البلكونة لتغنى «من حبى فيك يا جارى»، هكذا عشت سنوات طويلة من عمرى عدوًا لما أجهل كما كل البشر، فإن ذكروا السيمفونيات وبحيرة البجع قرقعت من الضحك ساخرًا متهكمًا كعبيط القرية، حتى وقعت فى الفخ ووجدت نفسى وجهًا لوجه مع ما أخشاه وأجهله.
وصلتنى دعوة لحضور مهرجان أبوظبى ٢٠١٠ والذى أعلن احتفالًا ضخمًا بالمئوية الثانية لميلاد شوبان (١٨٠٩ - ١٨٤٩)، واستقدم الفرقة الوطنية البولندية وستنقل مسارح بولندا وقائع المهرجان فى بث مباشر من قصر الإمارات حيث مسرح الاحتفاليات.. ودقى يا مزيكا، فكما هى علاقتى ببحيرة البجع والسيمفونيات كانت علاقتى بشوبان فلم أهتم بحياة هذا الموسيقى البارع ولا بتفاصيل كبيرة أو صغيرة عنه، وبحكم المهنة والعمل قلتُ لا بد من التعرف على هذا الرجل، ولم أكن أعلم أننى سأقع فى غرامه بعد أن قضيت سنوات عمرى الأربعين سكران بموسيقى عبدالوهاب والقصبجى والسنباطى، ومغرمًا بالشيخ ياسين التهامى وعباقرة الغناء الشعبى محمد طه وشوقى القناوى وخضرة محمد خضر، ها أنا مع شوبان أو شاعر الموسيقى، ها أنا أكتشف كائنًا خفيفًا يعبر الحياة بسرعة ويظل خالدًا كل هذه السنوات والحقب! أخذتنى قصة حياته، غروره رغم هزال المرض المبكر، عشقه لبولندا، مرارة الحب وقسوته، الموت المباغت، وتعلمتُ درسًا مهمًا: فلن تحب الموسيقى أو تتعاطاها إلا إذا عرفت كيف ولدت تلك النغمات، كيف بكى البيانو، وهو ينثر دموع عاشق للحياة يعرف أن الموت يقف على الباب!
وصلتُ مطار أبوظبى قبل الافتتاح بساعة ونصف الساعة، وفى الفندق تهيأت تمامًا لمقابلة روح شوبان، كنتً أتعثر فى ربط الكرافت وأنا سارح مع شاعر الموسيقى فريديريك فرانسوا شوبان، أراه طفلًا معتل الصحة يسمع نصائح الأطباء وتحذيرات الأسرة فيعزف مقطوعة الألم، وأراه شابًا فى العشرين يواجه مرض السل بصدر ضعيف وواهن، بينما تواجه بولندا كلها الاستعمار الروسى بثوار لا يملكون السلاح فتدهسهم الدبابات، ورأيته يرحل إلى باريس ليكتب مجد بولندا الموسيقى، ويصبح ذلك الفتى الحزين صديقًا للكبار فى فن الرواية والشعر «فيكتور هوجو، بلزاك، بودلير..».
وصلت مسرح قصر الإمارات فى الموعد، واصطفت الأوركسترا السيمفونى للإذاعة الوطنية البولندية فى مهابة لتقدم أعمالًا مستوحاة من تراث «شوبان» الموسيقى، وسمعتُ صوت بولندا ينساب هادئًا، بينما مرارة المرض والضعف تصنع خلفية موسيقية، كانت المقطوعات تسجل نصفًا من حياة قصيرة، ففى باريس اكتمل النصف الثانى الأكثر دراما، فما إن أصبح شوبان نجمًا كبيرًا، حتى كان قلبه الواهن على موعد مع المتعة حين التقى الكاتبة المتمردة المسكونة بالعنفوان والجنون والعشق «أورور دوبان»، وكان العالم يعرفها باسم «جورج صاند»، أمًا لطفلين وعشيقة سابقة لدو موسيه، تشرب الخمر وتدخن السيجار وتتحدى مجتمعا كاملًا، وقبل كل ذلك هى سيدة قصر «نوهان» الذى تحول إلى أشهر صالون أدبى استقطب أعظم الأدباء والموسيقيين.
وتذوق شوبان شهد المتعة فى حين كان شبح الموت يطارده، وقضيا سويا أجمل أيامهما فى جزيرة مايوركا الساحرة، جعلته ملكًا على عرشها وهتفت بموهبته فى كل مكان، وكتبتْ: «إنه لمن الممتع حقا أن يرى الإنسان يدى شوبان الصغيرتين، وهما تمتدان لتسيطرا على مفاتيح البيانو.. ولكل إصبع من أصابعه الرقيقة صوت مميز، يجلس إلى البيانو ويحوله إلى حياة.. حياة حزينة كنفسه ومثل بلاده». لكنها فجأة ومثل كل الخائنات الجميلات أطفأت الأنوار، وسحبت نفسها من حياته وتحولت إلى أفعى تلدغ بقسوة قلبًا واهنًا وضعيفًا، وأحرقت رسائله وأخفت كل أغراضه، وكل ما يذكرها به، حتى قيل إنها وهبت البيانو الذى كان يستخدمه إلى أحد الرجال المجهولين. عاش سنتين فقط بعد رحيلها.. تحرك جسده كالظل فى قاعات الكونسير بباريس.. ولم يكن يحيا منه سوى عقله وأصابعه، وكانت كلماته الأخيرة: «وعدتنى أن أموت يومًا بين ذراعيها فلماذا أخلت بوعدها؟».