رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علاء أبوالدهب.. أمير مياه السجن يصلى بـ«اللباس الداخلى»

علاء أبوالدهب
علاء أبوالدهب

يمسك عصيرًا فى يده، ونحن بسيارة الترحيلات، ويستمع بشغف لأحاديثى حول سجن أبوزعبل، وكنت أعلم أنه يريد أن يهيئ نفسه للحبس، فهذه هى المرة الأولى التى سيحبس فيها علاء أبوالدهب، القيادى الكبير فى الجماعة الإسلامية بين أربعة جدران.
تعمدت أن أطيل الحكى، كى أستمتع بقسمات وجهه الممتقع من الخوف، ونظرات عينيه التائهة، وهو يرفع العصير إلى فمه، فلطالما رأيته مرفهًا بشكل كبير.

كان يسمع منى حكايات سجن أبوزعبل، الذى وقعت فيه خلال هذه الفترة أحداث جسام بين الجنائيين والجماعات المحبوسة، أدت إلى مقتل ٣ أحدهم فصل رأسه عن جسده، وإصابة أكثر من ٦٠ جنائيًا، بعد أن اقتحمت عليهم الجماعة زنازينهم، بحجة أن أحدهم سبّ الدين!.
كأن قدميه لا تستطيعان حمله، وقوته التى كان يسخِّرها حتى يقوى على الاحتمال بلغت منتهاها، وأصبحت نفاية بسبب ما سمعه لأول مرة ولم يكن يدرى عنه شيئًا.
فرقتنا الأيام والتقينا فيما بعد بسجن الفيوم العمومى، وسمعته يصرخ من كل قلبه:
«الحرية يا ناس قيمة كبيرة إياكم تفرطوا فيها... لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... أنا عاوز إبرة خياطة... هل من شخص يناولنى إبرة خياطة أخيط بدلتى الكتان».
كان يقول لى: «لأول مرة أشعر بالجوع والبرد القارس بهذه الطريقة، حتى البدلة الكتان ظللت ألبسها وتلبسنى عدة سنوات بدأت تكشف عورتى.. شعرت بقيمة الإبرة وشعاع الشمس، واللباس الداخلى، والحرية، وكل شىء».
دعا الله فاستجاب له ودخلت ترحيلة فى الليل، وفرح الجميع باللباس والطعام الذى معهم وفرح أبوالدهب بإبرة الخياطة، وبدخول رفيقنا ناصر سيد معهم.
لم نترك بعضنا بعدها، ولم يكف ثلاثتنا طوال اليوم عن الحكى، وعن الضحك على أبوالدهب، القيادى المدّعى معرفته بأصول الفقه، ومصطلح الحديث، وهو لا يحفظ سوى جملتين سمعهما من شخص كان معه فى أبوزعبل، وهو يرددهما طوال اليوم (الاحتياط ليس بواجب ولا فرض)، (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
ناصر كان يقول له: أرجوك اشرح لنا وعلمنا يا مولانا، لكن دون جدوى، هو هكذا يحفظها فقط.
آراؤه التقدمية فى هذا الوقت، مثل قصره للصلاة، أو صلاته باللباس الداخلى، وانتقاده تصرفات الجماعة، سببت له مشاكل كثيرة جدًا، فتم استبعاده من القيادة.
ونحن نستضىء على شعاع يسقط علينا من لمبات العنابر العلوية فوق سور السجن بشهر رمضان، فتح باب الزنزانة فى وقت لم نتعود عليه مطلقًا، وقال لنا الضابط وهو ينظر إلينا:
«النهارده كان فيه محاولة لاغتيال الريس فى أديس أبابا، ولو أنتم كنتم فى بلد تانى كانوا وضعوكم فى صودا كاوية موش دخلوكم حمامات».
أخرجونا كلنا بالليل إلى الحمامات، لكى نستحم ونلبس بدلًا جديدة، ثم أدخلونا ونحن نتعجب مما يجرى، وفى الصباح جاءنا الضابط ليخبرنا أن ماسورة المياه التى تمر أسفل كوبرى اللاهون كُسِرت، وأن ذلك سيؤدى لانقطاع المياه على الأقل ١٥ يومًا عن السجن.
مياه الشرب كانت توزع علينا بمقدار كوب للسجين.. استمر هذا الحال أيامًا طويلة، عانينا فيها من الجرب بسبب عدم الاستحمام، وعدم وجود الماء... رائحة العرق ومخلفات دورة المياه والقاذورات تملأ خياشيمنا... استشرى الهرش والجرب والقمل، فقام ناصر سيد أمير الزنزانة بتعيين أبوالدهب أميرًا على المياه، فكان يوزع كوبًا لكل منا فى اليوم الواحد، وكان يصر على تنفيذ رأيه بالقوة، ويقول:
«يا جماعة ما يحدث دليل على غضب ربنا علينا».
الماء انفجر من الصنبور بعد أن حدثت معركة كبيرة فى الغرفة، بسبب تقسيم المياه الذى يصر علاء أبوالدهب على أنه عادل، وحكاية غضب ربنا، فقال له ناصر سيد:
«الأفضل ألا تنتقد هؤلاء علنًا.. أليس الاحتياط ليس بواجب ولا فرض كما تقول فضيلتك».
انتقل أبوالدهب إلى سجن المنيا العمومى، وهناك وقعت معركة كبيرة بين أعضاء الجماعة لإصرار أميرها (م.أ) على تفتيش زيارة أحد المعتقلين، بحجة أنه مرشد للأمن، وانتهت بالاعتداء على أحد أعضاء الجماعة، وهو جار لأبوالدهب (إ.ص)، فتصدى للدفاع عنه بكل قوة، مما أدى فى النهاية إلى إصدار قرار بمقاطعته، وعزله من كل مناصبه فى الجماعة.
ضحكنا ثلاثتنا طوال الليل على ما يجرى، وتحسنت أحوالنا شيئًا فشيئًا، وفتح الكنتين، وكنا عن طريق الفلوس التى يرسلها لنا أهلنا فى الأمانات، نشترى بونات من الإخصائى الاجتماعى الذى يرسل لنا ما نطلبه من حاجات غير ممنوعة مع الجنائى، حيث كنا نحن ممنوعين من الخروج من الزنازين.
البضائع المسموح بها كانت كالتالى (الجبنة - لبن بودرة - الطحينية - سكر) والبونات لا تكفى أى غرفة لشراء ما يكفيها.. وعندما تصرف هذه الأشياء، نحتفل احتفالًا كبيرًا، وكنا نقوم بعمل الحمبلاظ.
طريقة عمل «الحمبلاظ»، هى أن يقوم أمير المطبخ والمساعد له بعجن الأرز المطبوخ، الذى يأتى فى التعيين، بعد غسله بالماء، ثم يضع فيه السكر وقليلًا من لبن البودرة.
أبوالدهب أقسم ألا يذوق هذا الحمبلاظ أبدًا، وأبر بقسمه، وأصر أن يترك هذه الجماعة للأبد، وبالفعل أيضًا أبر بقسمه.
كلما حانت الأقدار للقائه فى مدينتنا بصعيد مصر، جلسنا معًا نحن الثلاثة، وتذكرنا الحمبلاظ، وتقسيم المياه العادل، ونطلب منه أن يشرح لنا الشىء الوحيد الذى يحفظه من أصول الفقه (الاحتياط ليس بواجب ولا فرض)، لكنه يفشل كالعادة.