رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإخوان والسلفيون.. من الخصومة إلى الاندماج


سؤالان لابد الإجابة عنهما، أما السؤال الأول فهو: هل السلفية مذهب دينى أم أنها فترة زمنية مباركة؟ أما عن السؤال الثانى فهو: هل الإخوان المسلمون حاليا يقفون على أرض فكرية ومنهجية واحدة مع من يسمون أنفسهم بالسلفيين؟ قد يبدو ظاهريا أن السؤالين لا رابط بينهما ولكن عند الإجابة سيتضح الرابط.

أجاب عن السؤال الأول العلامة الدكتور محمد سعيد البوطى -رحمة الله عليه- فى كتابه الشهير «السلفية مرحلة زمنية مباركة» وأظن أن عنوان الكتاب يدل على طبيعة الإجابة، لم يكن غريبا على البوطى أن يطرح فكرته بسلاسة واقتدار وهو الدارس الباحث الأريب الذى أوتى من كل فقه سببا، ولم يكن من المستغرب أن يصل البوطى فى بحثه إلى حقيقة غابت كثيرا عن أذهان بعضهم.. تلك الحقيقة الغائبة تشير إلى أن «السلف لم يكن شيئا واحدا ولا طريقة واحدة « بل عاش الإسلام فى الأعصر الأولى تلك العصور التى يبتغى البعض اقتفاء آثارها ذراعا بذراع وشبرا بشبر بين تشدد المتشددين وتيسير الميسرين.. عاشت تلك العصور التى نطلق عليها عصور السلف بين أهل التقليد وأهل الرأى.. بين من يأخذ بالعزيمة ومن يأخذ بالرخصة دون أن ينكر هذا على ذاك ولا أولئك على هؤلاء.

كانت السلفية إذن مرحلة زمنية ولكنها تحولت عن بعض أصحاب الأفهام المتشددة إلى مذهب دينى مبتدع وعن ذلك يقول البوطى «إن السلفية الحالية مذهب جديد مخترع فى الدين، وإن بنيانه المتميز، قد كونه أصحابه من طائفة من الآراء الاجتهادية فى الأفكار الاعتقادية والأحكام السلوكية، انتقوها وجمعوها من مجموع آراء اجتهادية كثيرة مختلفة قال بها كثير من علماء السلف وخيرة أهل السنة والجماعة، اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة بهم ثم حكموا بأن هذا البنيان الذى أقاموه من هذه الآراء المختارة من قبلهم، وبناء على أمزجتهم وميولاتهم، هو دون غيره البنيان الذى يضم الجماعة الإسلامية الناجية والسائرة على هدى الكتاب والسنة، وكل من تحول عنه إلى آراء واجتهادات أخرى قال بها فصيل آخر من السلف فهم مبتدعون تائهون».

وحين أدرك البعض أننا فى زمن يتحول فيه المتدينون إلى اتبّاع السلفية كمذهب وأنها تمددت حتى أنها تسربت بل وسيطرت على تيار الإخوان المسلمين الذى كان يبدو فى ظاهره بأنه صاحب الوسطية إلا أنه جنح إلى التشدد والغلو كتب الباحث المدقق حسام تمام رحمة الله عليه فى مقاله «أسئلة الزمن السلفى» أنا من الذين يذهبون إلى أن مؤشر العالم الإسلامى دخل فى الزمن السلفى، وأن السلفية ستكون إن لم تعد سيدة الزمن القادم، لقد صارت السلفية الدينامية الأقوى والأكثر اشتغالا فى عالمنا الإسلامى وقدرة على التأثير فيه، وهى تتمدد فى كل فراغ تنسحب منه الديناميات الأخرى.

قراءة سريعة تقول إن المشروعات الإصلاحية المختلفة فى عالمنا الإسلامى متعثرة بل ومتراجعة، وأن كل تعثر يمد السلفية بأسباب من القوة لم تكن لها من قبل...وأن كل الطرق التى يسير فيها عالمنا الإسلامى تؤدى به إلى السلفية.

التراجع لم يعد رهنا بمشروعات الإصلاح «العلمانية» إن صح التعبير فحسب؛ هذا بالمشروعات العلمانية فحسب بل ينطبق أكثر على المشروعات «الإسلامية» التى تصدرت الواجهة حينا من الدهر.

إن قراءة مدققة لمشروع الإخوان المسلمين الذى ظل العنوان الأبرز على المشروع الإسلامى طوال ثلاثة أرباع القرن الأخير لتؤكد أن هذا المشروع أُنهك حد الإعياء واُستنزف تاريخيا وتفككت روايته الكبرى حتى لم يعد يتبقى منها – عند التحقيق- إلا عناوين وإشارات أقرب إلى نوستالجيا (الحنين) لزمن الإخوان الجميل!

يحدث هذا فى الوقت الذى زادت الطاقة الأيديولوجية للسلفية حتى وصلت إلى أقصاها، فبلغت القمة فى القدرة على اجتذاب الجماهير والتأثير فيها وتغيير أفكارها وتصوراتها وسلوكياتها إضافة إلى حشدها وتعبئتها بل واخترقت المنظومة الإخوانية حتى صارت السلفية تيارا فاعلا بل وأكثر التيارات فاعلية وتأثيرا داخل الإخوان.

بدت نبوءة حسام تمام بأن الإخوان يتحولون تدريجيا إلى الأيديولوجية السلفية التى قدمت نفسها كمذهب إسلامى وهى غير ذلك يقينا وكأنها إجابة عن السؤال الثانى الذى طرحناه فى مقدمة هذا المقال، ويقينا فإن نبوءة تمام لم تكن وليدة تهويمات أو خيالات لكاتب اشتبك وتشابك واشترك وتشارك بفاعلية مع الحركات الإسلامية وفى مقدمتها جماعة الإخوان، ولكنها كانت قراءة واعية لمسيرة الحركتين، حركة السلفيين وحركة الإخوان المسلمين.

كانت الحركة السلفية هى أبرز خصوم الإخوان فى فترة السبعينيات وكانت المخاصمات والملاسنات بين التيارين على أشدها.. حينها كان أسامة القوصى وأسامة عبد العظيم من رموز السلفيين يقفان فكريا على طرف نقيض من أفكار إسلامية معتدلة يطرحها فريق معتدل من الإخوان على رأسهم القرضاوى، حينها أيضا خرجت فتاوى قطب السلفيين عالم الحديث ناصر الدين الألبانى تُحرّم الانضمام لجماعة الإخوان، ومن معين العالم الحنبلى الوهابى بن باز خرجت أيضا الفتاوى التى تصف الإخوان بأنهم أهل البدع والضلال، وانتشرت هذه الفتاوى بين أبناء الحركة الإسلامية وظلت تؤثر فيهم وتبعدهم عن ساحة الإخوان المسلمين حتى إن أبا إسحاق الحوينى رمز السلفية فى مصر ألقى عشرات الخطب التى يهاجم فيها الإخوان ويعدد البدع التى رأى أنهم وقعوا فيها.

لم يمنع هذا بالطبع بعض شباب السلفيين فى السبعينيات والثمانينيات من الانخراط فى الإخوان، فقد كان معظم من دخلوا إلى الإخوان فى السبعينيات من مدينة الإسكندرية ودمنهور هم من شباب السلفيين وكان أبرزهم آنذاك إبراهيم الزعفرانى وحامد الدفراوى وخالد داوود، إلا أن حالة المواجهة كانت على أشدها لم يخفت أوارها أبدا حتى إنه لم يخفف من شدتها تقدير جمهور السلفيين لبعض شيوخ الإخوان مثل الدكتور جمال عبد الهادى والدكتور عبد الستار فتح الله.

وحين خرج الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ببعض الأفكار الوسطية المعتدلة التى كنا فى زمن مضى نعتبرها بديهية لا تستأهل مناقشة مثل الغناء والعزف على آلات الموسيقى والفن وما إلى ذلك كانت المفاجأة الثقيلة التى تمثلت فى ثورة عدد كبير من شباب الإخوان على هذه الأفكار حتى إن البعض منهم أخرج أبا الفتوح من ملة الإسلام.

إذا عدنا إلى السؤالين سنجد أن السلفية لم تكن ولن تكون مذهبا دينيا ولكن البعض مذهبها.. وأن الإخوان لم يكونوا سلفيين ولكن البعض سلّفهم.. والآن جماعة الإخوان ترتدى ثياب المذهب السلفى المبتدع.