رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حكايات فوزية مهران».. صاحبة «بيت الطالبات»: لا أخشى النهاية طالما أستطيع الكتابة

فوزية مهران
فوزية مهران

- محفوظ قال لى: «أنا ابن الحارة».. وأحمد بهاء الدين استكثر علىّ كتابة مقال وتحقيق فى العدد
-أقول لـ«النمنم»: الأدباء يحتاجون اهتمامًا فى حياتهم وليس بعد الموت.. والتاريخ سينصف فاروق حسنى

للكاتبة الكبيرة فوزية مهران تجربة ثقافية وأدبية عظيمة، وذكريات زاخرة عن عظماء، ما زلنا ننهل من نبع إبداعاتهم حتى الآن. فى السطور التالية، تفتح «الدستور» صندوق الذكريات مع فوزية مهران، عن مشوارها فى الحياة، من مسقط رأسها الإسكندرية، وحكاياتها عن البحر، وزواجها، إلى التحاقها بالصحافة وتجاربها مع السينما والمسرح. وتقيم الكاتبة الكبيرة، خلال حكاياتها، سير العديد من المشاهير، الذين أثروا فى حياتها، منهم الأساتذة والزملاء، ومنهم من تتلمذ على يديها ورافقها فى أيام عملها الأخيرة، قبل أن تكتفى بمقالها الأسبوعى بإحدى الصحف.


■ بداية.. ما أبرز مؤثرات نشأتك الأولى وبداياتك؟
- ولدت فى الإسكندرية فى الخامس من ديسمبر ١٩٣١، وقتها كانت الحياة صعبة وعسيرة، لكنها جميلة، وكان مكانى المفضل فى منزلنا بجانب المكتبة، كنت بجوارها أرقد وأركض وأعود إليها، كنت منشغلة بكتابات وعناوين الكبار مثل الحكيم وطه حسين والمنفلوطى، أما نجيب محفوظ فكان صديقى ومن المقربين جدًا.
وبالتفصيل، قرأت كتابات «المنفلوطى» فى سن مبكرة، وأحببت قصص حبه وظننتها حقيقة فبكيت لضياع الحب، كما قرأت قصة لكاتبى المفضل سعد مكاوى، التى طلبت صحيفة «المصرى» آراء القراء فيها، فأرسلت رأيى، وفيه تحمست لمعنى الحب، ووقفت بجانب البطلة لرؤيتى أن الحب هو أهم شىء فى الحياة.
بعدها عرضت الجريدة، وكانت هى التى نشرت القصة، أفضل آراء القراء فيها، وكان رأيى هو الثانى بين الآراء، فأصبت بالرعب، كيف سأواجه أبى؟، لكن الله سلم.
■ هذه هى النشأة.. فماذا عن بداياتك فى مؤسسة «روزاليوسف»؟
- فى الجامعة، كنت أشترى مجلة «روزاليوسف» ووجدت فيها روحًا جديدة فى الكتابة، وعندما صدرت «صباح الخير» قلت هذه مجلتى، وقابلت رئيس التحرير أحمد بهاء الدين وعرضت عليه بعضًا من أعمالى، فعملت بها قبل الصدور بعدة أشهر.
وفى تلك الفترة، أعددنا ١٠٠ عدد تجريبى وتنشيطى بحثًا عن جسور تفاهم وعلاقة صادقة مع قارئ مختلف، وتم تعيينى مع العدد الأول من «صباح الخير»، وبعد سنوات قليلة تحولت بأعمالى إلى المجلة الأم «روزاليوسف».
■ ما قصة صدامك مع أحمد بهاء الدين بسبب مارلين مونرو؟
- كان الصدام الأول واللذيذ بالجميل الرائع المناصر للمرأة والعنيد أحمد بهاء الدين، بسبب مقالى النارى عن قتل مارلين مونرو، واتهمت فى مقالى الغرب الرأسمالى المتوحش، وقلت إنه «هو من قتل أجمل كائنة فى الأرض».
وشددت على أن «مارلين مثلت وجسدت جمر الحب والعيش وروعة الحياة، وهذا فى كل أفلامها وحتى صورها بما تحمل من كل أشكال وألوان الإثارة والفتنة، وقلت إن أمريكا والغرب أيضًا صنعوا منها سلعة وتناسوا آلامها وحزنها الدائم وهروبها للكحوليات، حتى صارت بوحدتها ما بين حافتى الجنون، فهوت صريعة للقهر واليأس».
ورفض بهاء منهجى وتبريراتى وعنفنى بطريقة من يريد الضغط عليك ليتبين ويتأكد من صحة رؤيتك ووجهة نظرك وصلابة أفكارك، وكان المقال نُشر بوكالات الأنباء العالمية وتم تناوله وتداوله فى نيويورك وواشنطن وباريس ولندن، وهناك بعض الصحف البريطانية والفرنسية والإسبانية نشرت منه مقاطع، وهناك من نشر مقالى كاملًا، مؤكدًا ما ذهبت إليه من تورط أجهزة بالداخل الأمريكى فى تصفية وسحل مارلين مونرو.
■ قلتِ لى إن البحر لعب دورًا مهمًا فى حياتك.. كما أنه تكرر فى أعمالك بل كان بطل بعضها مثل «نجمة ميناء بحر» و«أغنية للبحر».. كيف أثر البحر على حياتك؟
- كتبت أعمالى الإبداعية كلها فى الإسكندرية على صوت الموج واصطدامه بالصخور، بداية من استيقاظى فى السادسة واندفاعى لإيقاظ كل أشقائى لكى يشاركونى النزول مبكرًا لشراء المقرمشات والفينو والقرص بالعجوة والكحك المضفر.
كانوا يستسلمون للنوم، وكنت أصر على ضربهم بخفة ونزع أغطية الفراش، فقد كنت أذهب صباح كل يوم إلى فرن يملكه يونانى قبل الثورة، أرتدى بلوزة بلون سماوى ممزوج بالـ«بيج» وجيب بلون البحر، على مدار عقد ويزيد، إلى أن شاهدنى شاب يعمل ربان سفينة وهو يرتدى بدلة البحار البيضاء، فشعرت بنظراته من أول مرة، وفهمت أنه يقول لنفسه: كيف لى أن أتبعها؟
كنت أضحك فى نفسى وسرى، وما زلت أتذكر كل ذلك، ففى أول لقاء لى به فى بيت الأسرة سمعته يردد دون خوف: «رأيتك من ممتلكاتى التى أنعم الله بها علىّ، فأنت مثل رزقى الكثير الموجود فى البحر، وأنت من اختارها قلبى وعقلى لنبحر سويًا نحو ضفاف أخرى».
■ قدمتِ رواية «بيت الطالبات» وكان هناك صراع على من يخرجها للسينما.. فما ذكرياتك مع تلك التجربة؟
- فى فيلم «بيت الطالبات» الذى أخرجه الراحل أحمد ضياء الدين لم أزل أتذكر كيف كانت القاعة تضج بالتصفيق عندما تقول الفتاة: «المهم أن ننقذ زميلتنا الجريحة الآن ثم بعد ذلك يأتى يوم الحساب».
الرواية طلبها المخرج حسن الإمام فرفضت بشدة، ليس لقلة ثقة ولا لانعدام رؤية، لكن حوارًا وأحاديث ولقاءات جمعتنى وتكررت مع «ضياء» كانت كفيلة بأن نتفق على رؤية متطابقة مع ما أردت قوله بصراحة وجرأة، فالرجل كان يتطلع لمعالجة وشكل درامى وفنى، بل وجمالى مختلف.
كما أنه استكمل الرؤية باختياره عناصر نسائية شابة قادرة على إقناع المشاهد والمتفرج فى تلك الفترة والحقبة الفاصلة، التى كانت فيها مصر من أسبق الدول فى العالم التى تطالب بحق المرأة فى المساواة والحرية وقنص ما يروق لتركيبتها على جميع المستويات، من أجل خلق وتجميع سلالات جديدة قادرة على تفعيل وشحذ همم التحرر بلا افتعال.
واستمر عرض الفيلم أكثر من ٢٠ أسبوعًا بدار العرض، وكان سببًا فى شهرة تزيد وتتجلى وتمنحنى المزيد للخروج بأفكار جديدة.
■ عرفتِ وتعاملتِ بل مارستِ الكتابة والفكر مع رواد ورموز وأسماء كبيرة وعظيمة.. فماذا بقى فى صندوق الذكريات من حياة وأسماء؟
- كنت ونجيب محفوظ أصدقاء، جلسنا سويًا كثيرًا، وكان دائما يقول لى: «أنا ابن هناك»، ويقصد الحارة، فكنت أرد بجرأة ودهشة: «وأنا أيضًا، وأذهب كثيرًا إلى هناك، فلست وحدك المناصر والمتبنى والمنتمى للشعبويين والفتوات والبسطاء، أبطال الأساطير وموزعيها فى الجمالية والحسين وخان الخليلى»، فكان يضحك ويقول: «ليتنى عرفتك مبكرًا يا فوزية هانم»، فأرفض مفردة «هانم»، ليربت على يدى.
وتعلمت من أحمد بهاء الدين الجرأة والتروى، رغم دوام مناطحتى له ولأفكاره، لكنه أول من أعطانى فرصة النشر والانتشار، واستكثر علىّ وقت رئاسته تحرير «صباح الخير» و«روزا» أن أكتب مقالًا طويلًا وتحقيقًا أو اثنين فى كل عدد، وكان يغيظنى بقوله: «جاهين لم يطمح لما تطمحين، وأنا رئيس تحرير ولا أكتب إلا مقالًا واحدًا».
وفى الوقت الذى انصرف فيه غالبية كتاب «روزا» و«صباح الخير» لجريدة «المساء» بعد الثورة بدافع الرفع من قيم وأهداف وطموحات الثورة، ترك كبار الكتاب المكان وكانوا يعاملون ما فى «المساء» بأضعاف مادية مضاعفة، إلا أننى تمسكت بمكانى.
ويعود الفضل فى هذا المسار لكاتبات سبقت أفكارهن كتاباتهن، وكذلك جرأتهن وبلاغتهن وسطوتهن فى قلب كل حدث وكل ضمير يقظ، مثل لطيفة الزيات وسهير القلماوى وغيرهما، وأيضًا للرجل المفكر والكاتب فى حياتى دور أو أدوار وتأثيرات عميقة، مثل صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين والعقاد.
كما أن القراءة لأدباء بحجم محفوظ وسعد مكاوى والمنفلوطى ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة ومندور وسعد أردش وغيرهم، كان له تأثير كبير علىّ.
■ فى الأسرة ومع البنات «بناتك».. كيف كانت الرحلة؟
- عندى ٥ بنات، أكبرهن «نادية» وكلهن يتحدثن عدة لغات، وهن ما اكتملت بهن رحلة حياتى ومعيشتى، وكانت أجمل اللحظات فى حياتى أيام ميلادهن، واحدة وراء الأخرى، وكذلك أيام زفافهن وإن كانت كل منهن ذهبت لعش جديد لا يختلف كثيرًا فى عتباته ولا مبادئه عن ذلك الذى حلمت وعشت حياتى به مع أبيهن الراحل.
■ ما رؤيتك لماهيات وأشكال الفن والكتابة؟
- المسرح كان مبشرًا لما يقدم حاليًا فى أشكال مختلفة، وهناك أسماء لمخرجين خرجوا من عباءة وتقنيات ورؤى العظيم خالد جلال، لكنهم تفوقوا عليه بالإصرار على الاختلاف، وآمل أن يعود جمهور المسرح إليه مرة أخرى.
ومع ذلك لا تروق لى فكرة «مسرح مصر» وأراها «مبتذلة» فيما يخص دور المسرح التنويرى والتثقيفى، لكن تبقى كنوز الوجوه الجديدة لممثلين مبشرين مثل على ربيع وحمدى الميرغنى، وما لا يروق لى الأفكار والأطروحات التى يقدمها مسرح أشرف عبدالباقى.
أما السينما فللأسف «متعثرة» إلا من أعمال قليلة ورائعة لداود عبدالسيد ويسرى نصر الله وبعض أفلام مجدى أحمد على، وقليل من المخرجين الجدد، لكن الموضوعات ضعيفة جدًا ولا تمس الواقع بأى شكل، خاصة فى السنوات العشرين الأخيرة.
■ من يبقى فى ذاكرة الكاتبة الكبيرة فوزية مهران؟
- الراحلة الرائعة نهاد صليحة وفتنتها ورؤيتها للمسرح ككاتبة وناقدة وصاحبة رؤية استشرافية وموسوعية خلاقة تخص كل أشكال المسرح وتقنياته فى مصر والعالم، وكذلك الراحل على سالم، وهناك علاقة ومشاوير جمعتنا أنا وهو ونهاد صليحة ومايسة زكى والراحل الشاعر عمر نجم وسامية حبيب وآخرين.
وكل الأسماء التى ذكرتها عاصروا معى رحلة طواف وسفر لمشاهدات وتقييمات مغايرة لما كان من نبض تجريبى موهوب كان يقدم فى مسرح الثقافة الجماهيرية فى قصور وبيوت مصر، ولى معهم مشاهدات وكتابات عظيمة فى هذا الإطار، استمرت عقدين ويزيد، كان فيها المسرح المصرى مزدهرًا وحاملًا لأحلام وآمال، متبنيًا لمشكلات الناس، عارضًا بصدق للبسطاء ورجل الشارع قبل المثقف.
■ لمن تبعثين برسائلك؟
- لفاروق حسنى والوزير حلمى النمنم، وأقول للأخير: شكرًا على اهتمامك بالكتاب وهو ملحوظ، لكنهم فى حاجة لرعاية دائمة معنوية ونفسية ومادية، وليتكم تفكرون فى الاهتمام بالأدباء، فى حياتهم وليس بعد مرضهم وموتهم فقط. ولحسنى أقول: «اثبت ولا تندم على ما قدمت لمصر وثقافتها وفنها، فسينصفك التاريخ بما طورت وجددت، من أول المسرح التجريبى وحتى شارع المعز وقصر طاز وغيرها».
ولسميحة أيوب كلمات من نور ونار، على تمسكها بميراث صلب وعفى من تراكمات إبداعية فى المسرح والسينما، فهى بحق سيدة للمسرح العربى ولها منى كل التقدير. ولن أنسى كل من عرفت وقابلت وعملت وتحاورت وعشقت عوالمهم وعوالمهن ومنهم لطيفة الزيات وسهير القلماوى وفاتن حمامة وسعاد حسنى وأحمد زكى، وكل من فتح أو أنار أو عبَّد طريقًا جديدًا فى الفن والحياة وساهم فى بهجة البشر وتمسكهم بالأمل ضد الطغيان وتبديد الظلام.
■ فى النهاية ماذا تتمنين؟
- ليست هناك نهاية، هناك حياة وكتابة، والاثنتان لا تنفصلان بالنسبة لى، فلم أزل وسأظل أكتب حتى الرحيل، ففى الكتابة حياة تمدنى بحيوات أخرى، وأتمنى الشفاء ومن القلب للرائعتين نادية لطفى ومديحة يسرى.. وكل الدعاء لشادية وسعاد حسنى بالرحمة، فكانتا طاقات نور لعشاق الفن والحرية والجمال والإيجابية.
إلى مَن مِن وزراء الثقافة تميلين؟
- ثروت عكاشة وفاروق حسنى وهو صديق عظيم وعزيز يسأل عنى ويهاتفنى دائمًا، ولى صولات وجولات مع الراحل سعد وهبة فى إطار لجان تحكيم وفعاليات مهرجان القاهرة الدولى للسينما لأكثر من ٢٠ سنة، فأنا كنت عضوة بلجنة المشاهدة واختيار الأفلام فى دورات عديدة.. والكاتب حلمى النمنم عليه إرث ثقيل فهو وزير لأهم دولة فى العالم، ومصر معنية دائمًا بتخليق وطرح وتطوير أدوات الفن والجذب والتثقيف.