رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انفراج صراع السلطات الممتد بين الأمل والشك


الدولة التى تفـقـد سيادة القانون لابد أن تفقد معها الضوابط التى تتحكم فى البعـد السلوكى لمجتمعـها الذى تقاس به حضارة الأمم ويؤدى فى النهاية إلى انهيارها، ذلك أن القاعـدة القانونية لا بد وأن تتشارك فيها سلطات الدولة الثلاث.

لا شك فى أن الصـراعات الممتدة التى تدور بيـن السلطات على الساحة المصرية فى الوقت الراهـن تحمل فى طياتها خطورة داهمة عـلى مستقبل الدولة المصرية، خاصة ذلك الصراع المحتدم بين السلطتين التنفيذية والتشريعـية من جهة، وبين السلطة القضائية من جهة أخرى، فبدلا من التنسيق بين السلطات الثلاث والفصل بينها وبناء أركان ومؤسسات دولة وطنية حديثة عـلى نحو سليم للانطلاق بها إلى آفاق مستقبل زاهـر، ذهـب النظام السياسى لجماعة الإخوان المسلمين إلى التغـول على السلطة القـضائية بهدف تطويعها رغـبا أو تركيعـها رهـبا، فأوحى إلى حزب الحرية والعـدالة الذراع السياسية للجماعة وإلى حزب الوسط التابع الأمين لها أن يتقدما بمشروعى قانون للهيئة القضائية إلى مجلس الشورى المحصن بالإعلان غير الدستورى ودستور الجماعة المشوه، يقـضيان بإزاحة وإقصاء أكثر من 3500 قاض ممن تراكمت لديهم الخبرة المعـرفية والمهنية، ليحل محلهم آخرون من المحامين الذين ينتمون إلى الجماعة وهو ما سيؤدى إلى هدم السلطة القضائية وإسقاط دولة القانون، إذ إن مهنة القضاء لا يصلح لها إلا من مارسها صغـيـرا من أول درجة من درجات سلم القضاء ليهـب نفسه لمحراب العـدالة، ولا شك فى أن ما يحدث تجاه قضاء مصر الشامخ والقول بغير الحق بتطهير القضاء يمثل اعـتداء صارخا على مكانة وشموخ القضاء المصرى المشهود له بالكفاءة والنزاهة، أما اتهام القضاة بالفساد والتشكيك فى نزاهتهم تحت زعـم أن معـظمهم قـد اعـتلوا منصة القضاء فى ظل النظام السابق الذى امتد لأكثر من ستة عـقود فيمثل اعتداء أظلم وأطغى خاصة عـندما حكموا بالعـدل على أولئك الذين يتهمونهم بالفساد وأصدروا أحكاما كثيرة ببراءتهم فى قضايا عـديدة لم يثبت ادانتهم فيها، وأمروا بالإفراج عنهم من المعـتقلات والسجون إبان هـذه العـهـود.

ويقضى مشروع القانون الإخوانى بخفـض سن التقاعـد للقضاة من 70 عاماً إلى 65 عاماً فى مشروع الحرية والعدالة و60 عاماً فى مشروع حزب الوسط التابع، كما يحظـر مشروع القانون نـدب القضاة للعـمل كمستشارين بالجهات الحكومية، لكنه يشتـرط أن يكون الندب كاملا فى حالة جواز الندب (لأنه لا يجوز لقاضى أن يكون تابعا لأحد الوزراء أو المحافظين، حتى لا يكون ذلك مناقضا لمبدأ الفـصل بين السلطات) كما سيُبقى مشروع القانون عـلى مادتين رئيسيتين، الأولى تؤدى إلى تقـليـم أظافـر نادى القضاة بعـدم تخصيـص أى اختصاصات له باعـتباره ناديا اجتماعـيا، والثانية (وهى الأهم) تسمح بانضمام المحامين إلى السلك القضائى فى حالة وجود عـجز فى عـدد القضاة، وهذه المادة هى التى تعـوَل عـليها الجماعة للتحكم وأخونة السلطة القضائية، إذ يمثل هذا القانون القائم على الإقصاء والعـزل والتقاعـد قمة التوجه السياسى الجائر للجماعة وتغـولها على السلطة القضائية، وعـند إصداره تتحقق للجماعة السيطرة عـلى سلطات الدولة الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) والتحكم فى مؤسسات ووسائل وأدوات الجهاز الحكومى، وهوالأمر الذى يحمل فى طياته خطورة داهمة إذ لا تنتظم الدولة تحت سيطرة قـوة وحيـدة تتسم بغـموض التنظيم والتمويل والأفكار، وربما يؤدى ذلك إلى انهيار الدولة الوطنية القائمة عـلى مرجعـيـة القانون والاستقلال الفعـلى للسلطة القضائية، كما يسمح للجماعة ببناء الدولة البديلة بأركان ومؤسسات ومفردات تتسق مع أهـداف التنظيم الدولى لها، وبما يضمن أن تتسـق مصـر مع دولة الخلافـة كإحدى ولاياتها، هكذا تعـمَـدت الجماعة ممارسة الضغـوط المعـنوية والمادية القائمة على الاستعـداء والاستـقـواء والاستعلاء عـلى السلطة القضائية، بهدف تطويعها رغـبا أو تركيعـها رهـبا، وهكذا أيضا تصبح مصر تحت نظام اتخذ من الإسلام ذريعة ومن القرآن حجَة ومن السنة الشريفة جسرا لتحقيق أهدافه، ومن أجل ذلك يفكر هذا النظام بمنطق الحلال والحرام وليس بمنطق الصواب والخطأ، وبالتالى فإن الفكر لديه يذهب دائما إلى تأثيم الآخـر إلى حـد التكفير، ولا يذهب إلى التسامح والوسـطيـة بالرغم من أن الله سبحانه وتعالى أراد لهذه الأمة أن تكون وسطا بين الأمم، وسطا فى الموقع والدور، ووسطا فى النظرة والتفكير، ووسطا فى الحرب والسلام.

ويبدو لى أن الجماعة لم تدرك حتى الآن نتائج فقـدان الدولـة لسيادة القانون التى تعـبـر عـن مدى تقدم أو تخلف الأمم، فالدولة التى تفـقـد سيادة القانون لابد أن تفقد معها الضوابط التى تتحكم فى البعـد السلوكى لمجتمعـها الذى يقاس به حضارة الأمم ويؤدى فى النهاية إلى انهيارها، ذلك أن القاعـدة القانونية لا بد وأن يتشارك فيها سلطات الدولة الثلاث، فالسلطة التشريعـية مسئولة عـن وضع وإصدار القاعـدة القانونية، والسلطة القضائية مسئولة عـن تطبيقها دون انتقائية بما يضمن تحقيق العـدل والمساواة عـند الفصل فى تنظيم العلاقات فى المجتمع، أما السلطة التنفيذية فهى مسئولة عـن وضع هذه القاعـدة موضع التنفيذ بكل دقة وشفافية ودون تمييز، ويمكن تعـريف القاعـدة القانونية فى أبسط صورة بأنها مجموعة القواعـد العامة المجردة الملزمة للجميع والتى تصدر لتنظيم العـلاقات داخل المجتمع، أى يشترط فى القاعـدة القانونية أن تكون عامة، ومجردة، وملزمة للجميع دون انتقائية أو تمييز، فالقاعـدة القانونية إذن تكون حامية للحرية، وتحقق العـدالة، وتضمن المساواة، وبالتالى تُعـد مسئولة عـن ترسخ عـنصرى الانتماء والولاء للدولة، فإذا انهارت القاعـدة القانونية انهارت السلطات الثلاث وانهارت الدولة.

والواقع فقـد تميز الصراع المحتدم بين السلطات بسرعة وكثافة وتراكم تفاعلاته والتى كان آخرها اجتماع رؤساء الهيئات القضائية مع رئيس الدولة الذى أسفر عـن عـدة توصيات أهـمها الدعـوة للتحضير لعـقـد مؤتمر العـدالة، وتبنى رئيس الدولة مشروعات قوانين السلطة القضائية التى سيتوافق عـليها القضاة وتقديمها للسلطة التشريعـية، وهو ما رفضه معـظم قضاة مصر خاصة الشباب منهم، حيث اعـتبروا هـذه التوصيات التفافا عـلى مطالبهم ومضيعة للوقت ومناورة مكشوفة كالتى تم تنفيذها مع المستشار عبد المجيـد محمود، بل ودعـوا إلى عـقـد مؤتمر دولى للعـدالة فى نفس توقيت عـقـد مؤتمر العدالة الأول، على أن يتم دعـوة جميع قضاة مصر وأعـضاء الهيئات القضائية المصرية ووفود من الدول العـربية والأجنبية، على أن يتم فيه عـقد الندوات وورش العـمل التى تبحث سبل تعـزيـز استقلال القضاء فى الدول النامية.

وفى يقينى، فإن الخروج من مأزق صدام السلطات لابد وأن تكون نقطة الانطلاق السليمة نابعة من زاوية الحياد المطلق لرئيس الدولة باعـتباره حكما بيـن السلطات، لإيجاد حل عـادل متكافئ يحقق استقرار السلطات أولا، ويضمن الفصل بينها دون تغـول سلطة عـلى أخرى ثانيا، وهو الأمر الذى لم يحدث حتى الآن، إذ إن هناك تناقضا كبيرا فى الموقف الراهـن، فبينما وعـد رئيس الدولة بأنه لن يتم صدور قانون يخالف مصالح القضاة، إلاَ أن مجلس الـ 7% ماضٍ فى مناقشة مشروع قانون السلطة القضائية بسرعـة تفوق سرعة الزمن لإقـراره وإصـداره، الأمر الذى يدعـو إلى الشك والريبة فى مصداقية هـذا الوعـد إذ يمكن ملاحظة التناقض الكبير فى الانتماء السياسى للرئيس المشتت، بين انتمائه لأهله وعشيرته فى الجماعة أولا وبين انتمائه للدولة التى يرأسها تاليا، ولله الأمر من قبل ومن بعـد.

■ أستاذ العلوم السياسية ــ جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.