رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متى يقود الإسلام الحياة؟


عند مغادرتى فندق الساحة فى بيروت صباح الخميس الماضى بعد نهاية المهمة الإعلامية التى سافرت إلى لبنان من أجلها ولمدة يوم واحد، قال لى موظف الاستقبال بالفندق، ستجد تاكسى لندن فى انتظارك على الباب ليأخذك إلى المطار. قلت فى نفسى، الرجل أخطأ وربما أنه يحلم بلندن، مثله مثل الكثيرين فى العالم العربى، ما الذى سيأتى بتاكسى لندن إلى بيروت؟

وبمجرد الخروج من باب الفندق، وجدت تاكسى لندن الذى قال عنه الرجل، قلت لنفسى لعله سيارة خاصة يمتلكها أحد المعجبين بالغرب وتقليعات الغرب، والمغرمين بكل ما فى الغرب من ثقافة وصناعة وتقنية وسلوك، لكن السائق لم يترك لى مجالاً لمزيد من التفكير والظنون، ونادانى بأدب جم كعادة اللبنانيين رغم الصراع السياسى والطائفى والهم والبطالة والجوار السورى المزعج، «اتفضل أنا فى انتظارك لآخذك إلى المطار». ركبت ذلك التاكسى المريح الفسيح لخمس دقائق فقط، وصلنا خلالها إلى مطار بيروت الدولى الذى لا يبعد عن الفندق أكثر من ميل واحد على الأكثر ثم شكرت الرجل.

فى بيروت حضرت تسجيل برنامجين عن الأوضاع القائمة فى العالم العربى، وعن النمطية الثقافية والافتنان بالغرب. وبعيداً عن السياسة التى أبت فى بلادنا بعد ثورات الربيع العربى، إلا أن تسير فى سياسة الصراع وليس سياسة التنافس، وكل، فى مجاله وميدانه كما يقول الشاعر العربى، يدعى وصلا بليلى. وليلى هنا هى السياسة الرشيدة التى كان يتطلع إليها الثائرون واليائسون والمحبطون والمظلومون خصوصاً فى بلاد الربيع العربى.

العالم العربى ينظر إلى أن طوق النجاة فى مصر، ويضعون على عاتق مصر، ثقة فيها وفى دورها وفى شعبها وفى الحركة الإسلامية والقومية فيها أيضاً، يضعون الكثير، مما كنا نتمنى أن يحمله عاتقها دون كلل أو ملل، ولكن مصر غارقة فى عدة مشكلات وتحديات كالأمواج العاتية، وتحتاج إلى حكمة وعقل لجمع شمل الوطن وتهدئة الأوضاع وعلاج الانفلات الأمنى وحل الأزمة الاقتصادية فى ضوء خطة إستراتيجية كاملة، تعتمد على استغلال الموارد الذاتية أولاً، وهى كثيرة وبعيداً عن أن تكون يدنا هى اليد السفلى تحت حكم الإسلاميين، وبعيداً عن أن يتحكم فينا صندوق النقد الدولى بأموال بعض العرب وغيرهم وبشروط مذلة مهما كانت الصفقات وشهادات حسن السير والسلوك التى سيعطيها الصندوق لمصر، أقول بعيداً عن السياسة ومنزلقاتها، والصراع وآثاره السيئة، والمستقبل الهزيل الذى نرسمه لأنفسنا أو يرسمه لنا الغير، فنقع فيه رغبة أو رهبة، استوقفنى، نمط الحياة الذى نحياه اليوم وهو النمط الحضارى والثقافى، والذى يدل على قيمة الإنسان وأهمية العصر، ويحتاج إلى إسهام، أرى أن أسسه ومقوماته موجودة عندنا فى الإسلام بشكل كامل وفى كل دين سماوى، وعندنا فى التاريخ الفرعونى والمسيحى والإسلامى. لقد طغى نمط الحياة الغربية فى بلادنا وقيمنا وأعرافنا وأخلاقنا، فلم تعد الأسرة هى الأسرة، ولا المجتمع هو المجتمع، ولا القرية هى القرية وحتى البادية لم تعد بادية أصيلة بسيطة كما كانت.

هناك فرق هائل بين التقدم واستخدام أدوات العصر مع المحافظة على القيم الأصلية وبين الانسلاخ عن تلك القيم والمبادئ والذوبان فى ثقافة وحضارة الآخرين، لأنهم تقدموا سياسياً واقتصادياً وتقنياً واتصالاتياً كذلك. أصبحنا نأكل كما يأكلون من الوجبات السريعة، ويعيش الأكثرية نمط الحياة الذى رسموه لهم ولنا فى الترفيه والتسوق، وحتى فى تظاهر المرأة عارية أو شبه عارية حتى ممن ينتسبون إلى الدين العظيم، وحركة «فيمن» خير دليل على ذلك، وأصبحنا نقلدهم فى الملبس وبعض طرائق الحياة الاجتماعية والسلوكية «إن الذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام» ولكننا أبداً لم نستطع أن نفكر كما يفكرون فى المستقبل، ونسعى لغزو الفضاء كما يسعون والإنتاج الكمى كما ينتجون، رغم اعتمادنا نمط الاقتصاد الوطنى ولكنه مرتبط بنظرية السوق الحرة والرأسمالية القادمة أيضاً من الغرب. فأين نحن من «جوعوا تصحوا» أو من « حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه» أو من « اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم» أو «أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد». لقد تخطى التقليد كل شىء حتى متطلبات الأمن الحديثة للرؤساء والمسئولين.

إن حالة الهزيمة النفسية أمام العالم الغربى ومشروعة الحضارى، وهى الحالة التى حذر منها ابن خلدون، تكاد تكون قائمة عندنا فى كل بلادنا، فكثير من أسماء المحلات والمصانع بل والمستشفيات والصيدليات تكتب باللغة الإنجليزية أو الفرنسية ولو بحروف عربية. هل فعلاً انهزم العرب والمسلمون أمام المشروع الثقافى والحضارى الغربى واستسلمنا لقيمه ومبادئه؟ هل فعلاً كما يقول ابن خلدون المهزوم يولع بثقافة المنتصر، والمغلوب يحاكى أو يقلد حضارة وثقافة الغالب»؟ وهل يتعدى هذا الولع والمحاكاة إلى التقدم العلمى والتقنى كما يتقدمون؟ هل لا نزال كما يقول مالك بن نبى لدينا مهارة «القابلية للاستعمار» إن كانت تلك السمة مهارة؟

هذه هى كوريا الشمالية تهدد باستخدام النووى لضرب أمريكا أو أهداف أمريكية، رغم وجود أمريكا القوى فى كوريا الجنوبية. لقد قسّم الاستعمار كوريا إلى جنوب وشمال، كما قسمت سايكس بيكو بلادنا واستسلمنا إلى هذا التقسيم، ندافع عنه وكأنه قرآن أو سنة. آه لو كان هذا التهديد لأمريكا من العراق أو سوريا أو مصر أو غيرها من بلاد العالم العربى، لحاصرتها أمريكا كما تحاصر إيران وتستعد مع إسرائيل لضربها ومحوها من الخريطة إن استطاعت. ولكن سوء السياسة الأمريكية كان سبباً فى كثرة أعدائها خصوصاً من غير العرب، أما العرب خصوصاً الخليج فيستمتعون بالقواعد العسكرية والخبرات العسكرية والتدريب العسكرى الأمريكى والسلاح الأمريكى كما يستمتعون بالبيرجر، وكأنه هو النمط الراقى أو الحضارى الذى لا غنى عنه؟

بعضنا يذهب إلى سويسرا وجبالها للتزلج، ولو أصلحنا جبال هندوكوش فى أفغانستان وبعضها لا ينزاح عنه الثلج الكثيف حتى فى أشد فصول السنة حرارة لكان ذلك أجدى وأولى. ذهبت إلى غزة منذ أسبوعين لحضور ندوة عن حقوق الإنسان، ولم يكن هناك أى مصايف محترمة أو حتى بدائية على طول الشاطئ من بورسعيد وحتى رفح المصرية، أقول رفح المصرية لأن هناك للأسف الشديد، نصفها أو أختها التى تبكى الحصار، رفح الفلسطينية.

هناك تأثير كبير وضغط إعلامى وإعلانى وترويجى بكل الأساليب الصالح منها والطالح، الجيد منها والسيئ لزيادة الاستهلاك فى بلادنا من المنتجات الغربية، والتى يستخدم بعضها للتأثير فى وعى الإنسان، فتراه يجرى وراء السلع الغربية ولو بالاقتراض أو الدين من البنك ويتفاخر باقتنائها، ويتطاول أحياناً على من لا يجد إليها سبيلا من بنى جلده.

أمريكا تستخدم قوتين للتأثير والحفاظ على مصالحها ومصالح إسرائيل ولو اقتضى ذلك تدميراً للآخرين، القوة الخشنة والقوة الناعمة، رأينا ذلك فى أفغانستان وفى العراق كأمثلة بارزة، ونراه يجرى اليوم فى سوريا كذلك التى تسير فى طريق الأفغنة أو اللبننة قديماً أو الصوملة، وتملك أمريكا اليوم-بصرف النظر عن النظام القاتل الحاكم فى سوريا أو المعارضة المبعثرة التى يرسم لها الآخرون طريقها-أقول تملك أمريكا، مفتاح التدخل فى سوريا فى أى وقت، يكون مناسباً لها ولإسرائيل، وذلك لمواجهة الإرهاب كما حددته وتراه أمريكا فى جبهة النصرة.

فى ظل الفتاوى الشاذة التى ورثنا فلسفتها عن الغرب أو نشأت من الجهل بالإسلام الوسطى وتفسير الضرورات تبيح المحظورات مثل فتاوى «هاتولى راجل» «وجهاد المناكحة» أو «اللواط المباح»، تحتاج الأمة إلى أئمة معاصرين يستطيعون الاجتهاد فى ضوء مقتضيات العصر، ويقودون الأمة من خلال المساجد وأجهزة الإعلام الرسمية والخاصة إلى التقدم والوحدة، وترسيخ النموذج الحضارى الثقافى القيمى الذى تحتاج إليه البشرية اليوم رغم تقدمها العلمى والحضارى الهائل.

كيف نوجد البيئة اللازمة والرعاية المطلوبة للتقدم العلمى مع الحفاظ على القيم والمبادئ والثوابت فى كل شىء أنا متأكد أن عندنا شباباً فى ذكاء وقدرة «تيم بيرنرز لى» الذى اخترع الشبكة العنكبوتية، والشاب الطالب ذى السبعة عشر عاماً نيك دالوازيو- البريطانى، الذى ابتكر مؤخراً تطبيقاً جديداً للهواتف المحمولة الذكية يُراكم به الأخبار الجديدة مختصراً إياها لتصبح سهلة القراءة عبر الهواتف المحمولة. وباع هذا الشاب المراهق الاختراع لشركة «ياهو» بثلاثين مليون دولار. أين شبابنا من هذا الاهتمام والتفكير العلمى والتفوق؟ علينا أن نجمع بين خيرى الدنيا والآخرة ونقدم النموذج للآخرين «ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة» ولكن كيف؟.

هناك نماذج حياتية تنموية استقلالية عظيمة معاصرة فى البرازيل (لولادى سيلفا)، وفنزويلا(هوجو تشافيز)، وبوليفيا(إيفو مورالس) وجنوب أفريقيا(نيلسون مانديلا) وغيرهم. إنهم أصحاب مناهج حياتية عظيمة فيها استقلال واحترام وحسن استغلال لقدرات الوطن والمواطن، ولكنها لو دعمت بالقيم الحضارية الإسلامية العظيمة ستكون النموذج الذى يجتذب أنظار العالم، وتكون للأمة قيمة حضارية عظيمة وتنسلخ عن التقليد النمطى الأعمى، وتقلع عن التغرب والتغريب أو الاستغراب.

والله الموفق