رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السلوك السياسى للقوى الفاعـلة تجاه المسألة النووية الإيرانية«ثالثـاً: تركيا»


إن تركيا بالرغم من عـدم امتلاكها للرادع النووى فإنها ترى أحقية إيران فى امتلاك تكنولوجيا البرنامج النووى للاستخدامات السلمية وهو الأمر الذى أغضب الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، أما العلاقات التركية الإسرائيلية فسيتم تناولها فى الأسبوع القادم عـندما نتناول السلوك السياسى لإسرائيل بإذن الله.

تناولت فى المقال الأول السلوك السياسى المتوقع من الولايات المتحدة إزاء الخطاب الذى وجهه نجاد إلى العالم أثناء حضوره المؤتمر الإسلامى بالقاهرة، والذى أعـلن فـيـه أنـه يتعـيـن عـلى الجميع أن يتعامل مع إيـران من الآن فصاعـدا عـلى أنها قـوة نـوويـة، وإزاء ما أعـلـنـه أوباما أن الوقت قـد حان لكى نتوصل إلى حـل دبلوماسى مع إيـران بشأن برنامجها النووى، وقـد خلص الـمـقـال إلى أن سياسة وأهـداف واستراتيجية الولايـات الـمـتـحـدة فى الـمـنـطـقـة سـتـظـل ثابـتـة لا تتغـيـر، وأن سلوكها السياسى المتوقع سـيـتـركـز حول بـذل الجهـود الحـثـيـثـة مع حلفائها فى الغـرب للتوصل إلى تسويــة دبلوماسية مع إيـران، أما فى المقال الثانى فـقـد أشرت إلى أن السلوك التسليحى لإيـران سيغـلـب عـلى السلوك السياسى فى تفاعلات علاقاتها مع الآخريـن، إذ سـيـتـركـز هـذا السلوك فى سعـيـها الدؤوب للحـصول عـلى تكـنـولـوجـيـا تصنيع وسائـل وصول الرادع النووى إلى الأهـداف المختلفة خاصة فى مجال الصواريخ بعـيدة المدى، حيث تلاحظ حضور كبير خبـراء البرنامج النووى الإيـرانى تجربـة إطلاق الصاروخ بعـيـد المدى وهى التجربة الثالثة لكوريا الشمالية والتى كانت من المرجح أنها تجرى لصالح إيران.

وقبل أن نبدأ فى تحليل السلوك السياسى لتركيا تجاه المسألة النووية الإيرانية فمن المناسب أن نشير إلى الثوابت والاعـتبارات الرئيسية التى تتحكم فى سلوكها، إذ يأتى الاتساق النموذجى والتفاعـل السليم بين عـناصر كتلتها الحيوية فى مقدمة هذه الثوابت والاعتبارات، إذ يلعـب موقعـها الجيوإستراتيجى الفريـد وقوتها البشرية ومساحة إقليمها وقوتها الاقتصادية وقوتها العـسكرية ومساحة الديموقراطية فيها (مقارنة بالآخرين) بالإضافة إلى كونها عـضـوا فى حلف الناتـو وسعـيـها الدؤوب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى دورا مهما فى صياغة سلوكها السياسى، فتركيا هى الدولة الوحيدة التى تربط بين قارتى آسيا وأوروبـا، وتطل على أربعة بحار هى الـبـحـر المـتـوسـط، والـبـحر الأسود وتتحكم فى بحر مرمرة (مضيقى البوسفور والدردنيل) وبحر إيجة، وقـد كان لانفراد تركيا بهذا الموقع الجيوستراتيجى وتعاظم خطورة انعكاساته عـلى طبيعة وكثافة وتسارع وتراكم تفاعلات الوحدات السياسية فى النسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط أن أصبحت تركيا هى القاسم المشترك فى أغلب المخططات الاستراتيجية للقوى العـظمى والكبرى فى النسق الدولى، سواء تلك التى تتعلق بالتوازنات والتحالفات، والتوازنات والتحالفات المضادة حتى أصبحت هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى ترتبط ارتباطا عضويا بالاستراتيجية الأطلسية من كونها ثانى أكبر قوة عـسكرية فى حلف الناتو، أما من حيث التكامل القومى والبعـد الدينى والعـقائدى فتعـتبر تركيا من أقل الدول تعرضا للأزمات العرقـية والدينية، حيث تعـتبر تركيا من الدول شديدة التجانس، إذ ينحدر شعـبها من أصل واحد ويدين أكثر من 98% منهم بالإسلام على المذهب السُنى، فى حين تدين أقلية قليلة جدا لا تتعـدى 2% بالدين المسيحى والدين اليهودى، ولذلك يلعـب هذا البُعـد دورا مهما فى تنامى الإرادة القومية لشعـبها وتعاظم الولاء والانتماء للدولة، كما يلعب هذا البعـد دورا بارزا فى صياغة علاقات تركيا مع الدول العربية والإسلامية، الأمر الذى أدى إلى سعى تركيا الحثيث إلى تعـظيم دورها فى جميع الدوائر عربيا وإقليميا وإسلاميا، خاصة بعـدما أدركت أنها الـوجـه المقـبـول لدى جميع الأطراف التى يمكنها تنسيق جميع ملفات الأزمات والنزاعات التى تسبب عـدم استقرار النسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط.

وبالرغم من الإدراك التركى الكامل للمتغـيرات الراهـنة وتأثيراتها المستقبلية، إلاَ أنها لم تستوعـب الأسباب الحقيقية لرفض طلب انضمامها للاتحاد الأوروبى، ففى يقينى أن السبب الحقيقى الذى يحول دون ذلك هو الاختلاف الجذرى بين نسقها القيمى والنسق القيمى لدول غرب أوروبا دينيا وثقافيا، وأن الاختلاف فى النسق الاجتماعـى خاصة فى معدلات النمو السكانى هو السبب الرئيسى الثانى لعـدم قبولها، إذ يبلغ معدل النمو فى تركيا 2% أى عشرة أضعاف النمو السكانى فى غرب أوروبا 0.2 %، كما ستكون الدول الأعـضاء مضطرة إلى استيعاب فائض العـمالة الضخم لتركيا فى حالة قبول عضويتها مما قد يؤدى إلى اختلال النسق الاجتماعى لهذه الدول، وبالرغم من ذلك فقد سعـت تركيا إلى إحداث بعـض التحولات فى نسقيها القيمى والاجتماعى حتى يتسق مع الغرب من أجل الانضمام إلى الاتحاد، فاعتنقت العـلمانية المفرطة دون تعـقل أو انضباط، ولم تفرق بين التغـريب والتحديث حتى بدت وكأنها فقدت هويتها فلا هى شرقية ولا هى غربية، ولا هى علمانية ولا هى إسلامية، إلى أن ارتقت الحكومات ذات التوجهات الإسلامية خاصة حكومة حزب العدالة والتنمية، حيث أدركت أن تركيا لا تستطيع الانسلاخ من إطارها الإسلامى فولت وجهها نحو الشرق أى نحو العـمق الجغـرافى والتاريخى والثقافى والحضارى الطبيعى، لتؤسس عـلاقات ذات صيغة تعـاونية قائمة على التكافؤ وحُسن الجوار مع معـظم وحدات الشرق الأوسط.

وترتيبا على ما تقدم يمكن تصور تفاعـلات البعـد السلوكى لتركيا بأنها لن تقتصرعلى التحرك السياسى فحسب ولكنها ستتحرك لتشمل المجالات الأمنية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعـية وفقا لحاجات ومتطلبات أمنها القومى وحسبما تقتضى مصلحتها العـليا، وهو ما سيجعـل معادلتها الاستراتيجية بالغة الدقة والحساسية والتعـقـيـد، حيث ستسعـى تركيا لنيل رضاء جميع أطراف المعادلة، وللتدليل على مدى دقة وتعـقـيـد وحساسية المعادلة الإستراتيجية التركية ينبغى الإجابة عـلى بعـض التساؤلات التى تدور فى الأذهان، ما السلوك السياسى لتركيا تجاه دول الربيع العربى خاصة سوريا؟ وهل يمكن لتركيا أن تضحى بعـلاقتها مع الولايات المتحدة، أو تضحى باتفاقات التعاون العـسكرى والاقتصادى والتجارى مع إسرائيل وتتحالف مع دول المواجهة ضد إسرائيل؟ وما مدى استعـدادها للوقوف إلى جوار دول الخليج ضد أطماع إيران فى منطقة الخليج العـربى؟ وربما تؤدى الإجابة إلى توضيح مسار السلوك السياسى لتركيا، فوفقا للمنظورالاستراتيجى فقد تسعى تركيا إلى إعادة هيكلة النظام الإقليمى فى المنطقة خاصة بعـد خروج كل من سوريا والعـراق وربما مصر من معادلة التوازن الاستراتيجى،كما أنها ترى أن تجربتها السياسية الإصلاحية هى تجربة رائدة يمكن وضعها موضع التطبيق فى دول الربيع العـربى لتحقيق الديموقراطية وإحداث الاستقرار السياسى، ويختلف موقفها تجاه سوريا، فهناك حدود ممتدة بينهما تبلغ 800 كم يتمركز عـليها أكثر من 2 مليون كردى سورى، فإذا أضفنا إلى ذلك التوترات الناتجة من الاعـتداءات المتكررة على الأراضى التركية لأدركنا عـلى الفور مدى القلق التى تسببه سوريا لتركيا مما أدى إلى التلويح بالتدخل العسكرى التركى أو المشاركة فى عمل عسكرى ما إذا قرر المجتمع الدولى ذلك، أما نمط العلاقات التركية الإيرانية فهو نمط فريـد إذ يمكن أن تندرج تحت العلاقات التنافسية بين القوتين، وبالرغم من ذلك فإن الاتفاقات الاقتصادية التى تم توقيعـها بين الدولتين قد أدت إلى ارتفاع حجم التبادل التجارى بينهما 6 مرات حتى وصل فى نهاية 2012 إلى أكثر من 20 مليار دولار.

■ استاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.