رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ «3-3»



تناولنا فى المقالين السابقين بعض جوانب هذه الآية الكريمة ولا يكفيها مجلدات عدة. إذ يقول الله تعالى «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . نقرأ فى المسند عن عبد الله بن عمر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه القلوب أوعية فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاءً من ظهر قلب غافل».

التيقن أيها القراء حتى يصل الإنسان لمرحلة اليقين «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» ولليقين معان كثيرة . وينبغى أن يوقن العبد بالإجابة، مهما كان عاصياً، لأن هذا يكون ثقة فى سعة رحمة الله تعالى وواسع مغفرته. ولا ينبغى لأحد مهما كان أن يقصر رحمة الله تعالى الواسعة.

ولهذا نهى الدين العبد أن يقول فى دعائه: «اللهم اغفر لى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له». نهى كذلك أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه. أنت تستغفر الله تعالى «فلا تقل إن شئت».

إن الله تعالى يحب الملحنين فى الدعاء، وقد جاء فى الآثار «إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه، قال يا جبريل لا تعجل بقضاء حاجة عبدى فإنى أحب أن اسمع صوته». هل نستشعر هذا المعنى الجميل أيها القارئ، فقد يكون تاخير الاستجابة للدعاء، أن الله تعالى يحب أن يسمع صوت عبده الداعى، والمستغفر.

قال تعالى: «وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ». سورة الأعراف: فما دام العبد يلح فى الدعاء، ويطمع فى الإجابة غير قاطع الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. وفى صحيح الحاكم عن أنس مرفوعا: «لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد» . يقول الله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ».

اقرأ أيها القارئ هذا الدعاء ، وهو من أهم أدوات الغفران ، فقد تصيبك المغفرة وأنت تقرأ . يقول بعضهم فى دعائه: “اللهم أنت أحقُ من ذُكر، وأحقُ من عُبد، وانصرُ من ابتغى، وأرأفُ من مَلَك، وأجودُ من سُئل، وأوسعُ من أعطى. أنت الملكُ لا شريك لك، والأحدُ الذى لا ند لك، كلُّ شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك. تطاع فتشكر.. وتعصى فتغفر. أقربُ شهيد، وأدنى حفيظ، حُلْتَ دون النفوس، وأخذتَ بالنواصى، وكتبتَ الآثار، ونسختَ الآجال. القلوبُ لك مفضية، والسرُ عندك علانية, الحلالُ ما أحللت، والحرامُ ما حرَّمت، والدينُ ما شرعت، والخلقُ خلقك، والعبدُ عبدك، وأنت اللهُ الرءوفُ الرحيم. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، وخيرتُه من خلقه وخليله. صلى الله عليه.. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدينوسلم تسليماً كثيراً. يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». ونحن نوصى بعضنا بعضاً بها. إن من أعظم صفات ربنا المغفرة والرحمة. ونلمس ذلك فى الفاتحة . كم يكرر كل يوم الإنسان، بسم الله الرحمن الرحيم. لقد شهد له تعالى بذلك الملائكة المقربون.. «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

فسبحانه من إلهٍ عظيم، وربٍ كريم.. يستر القبيح.. ويظهر الجميل. يرحم المذنبين ويعفو عن المقصرين.. «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ».

فسبحانه.. ما أرحمه، ما أكرمه، ما أعظمه، ما أحلمه، رغم أنه «الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ». يغفر السيئات.. ويعفو عن الزلات.. ولو بلغت عدد قطر الأمطار.. وعدد ورق الأشجار.. وعدد ما طلع عليه الليل والنهار. أو عدد رمال الصحراء أو نجوم السماء. لا شىء يستعصى على الله تعالى، ولا يحول دون غفرانه. هو الذى قال فى كتابه الحكيم”إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا “.

عن أبى طويلٍ شَطَب الممدود رضى الله عنه، أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلاً عمل الذنوبَ كلَها؛ فلم يترك منها شيئاً، وهو فى ذلك لم يترك حاجة ولا داجَةً إلا أتاها، فهل له من توبة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «فهل أسلمت؟». قال: أما أنا؛ فأشهدأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «نَعَم، تفعلُ الخيرات، وتتركُ السيئات، فيجعلُهنَّ اللهُ لكَ خيراتٍ كلَّهنَّ»، قال الرجل: وغدراتي، وفجراتى؟ قال: «نعم». قال: الله أكبر! فما زال يكبر حتى توارى. رواه الطبرانى فى الكبير بإسناد صحيح.

فسبحان من وثقت بعفوه هفواتُ المذنبين فوسعها، وطمعت بكرمه آمالُ المحسنين فما قطع طمعها، وخرقت السبع الطباقَ دعواتُ التائبين فسمعها. يقول الله تعالى «إلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا». أيها القراء الكرام مهما كان وضعكم بل ودينكم .. آملوا بربكم كل جميل.. فربكم ذو رحمات واسعة.. عمَّ العبادَ فضلُه ونعماؤه، ووسع البريةَ جوده وعطاؤه. الخيرات منه نازلة، والبركات منه متوالية متتابعة. بابه مفتوح للسائلين، وعفوه مبذول للتائبين المستغفرين. أقول ما تقرأون، وأستغفر الله لى ولكم ولجميع المذنبين من أمثالى. وللحديث صلة وبالله التوفيق.