رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النيروز ذكرى الشهداء


يأتى عيد النيروز فى كل عام فى موعده مرتبطاً بطبيعة هذه الأرض الطيبة فى هذا الفصل من النماء والحصاد، ففيه يأتى النيل، وتنضج ثمار النخيل وزهور الحقول، ويأتى هذا التوافق العجيب بين بدء العام القبطى وازدهار الموسم علامة رضاء من السماء أو هى تحية لأرواح الشهداء. إن الاستشهاد هو التضحية بالنفس من أجل المبادئ السامية، فكم وكم تكون قيمة الاستشهاد إن كان من أجل العقيدة الإيمانية، ولم تكن هذه التضحية أمراً هيناً على النفس البشرية، ولكن شهداء القبط بذلوها طواعية وبنفس راضية ومحبة كاملة ورجاء ثابت لا يخزى، فلم يكن إيمانهم فى لحظة من اللحظات مبنياً على رياء لكنه كان بيقين كامل.

رأس السنة القبطية امتداد لرأس السنة المصرية القديمة التى عرفها المصريون منذ أكثر من 7000 سنة، إذ جعلها العلامة الفلكى «توت» متفقة مع بدء فيضان النيل، ويُعتقد أن «توت» ينتمى إلى مدينة الأشمونين بصعيد مصر بالقرب من ملوى، وقد أطلق المصريون اسمه على الشهر الأول، وهو «شهر توت» وما زالت هذه الشهور القبطية أو المصرية القديمة هى التى يعتمد عليهاالزارع فى وادى النيل فى مواعيد الزرع والحصاد.

لقد وضع العلامة توت نظام التوقيت على أساس اليوم الذى تظهر فيه الشمس مقارنة لنجم يبدو صغيراً وهو يوم «اقتران الشمس بنجم الشعرى اليمانية»، ويقول هيرودوت (484 – 406 ق.م.) – أب التاريخ – إن المصريين أول من وضعوا حساب السنة فقسموها إلى اثنى عشر شهراً حسب ما كان لهم من معرفة ونبوغ بعلوم الفلك وتحركات النجوم، فكانوا بذلك أصدق من الأغريق وأغزر علماً فى الأمور الفلكية.

قصة النيروز تبدأ بالشجاعة النادرة، والوطنية الصادقة، والبطولة المذهلة، حينما واجه القبط عاصفة الاضطهاد التى شنها عليهم الرومان الوثنيون فى القرون الميلادية الأولى، بعد انتشار الديانة المسيحية فى مصر على يد القديس مرقس الذى حضر إلى مدينة الإسكندرية فى عام 64م وأخذ يجول فى شوارعها حتى استشهد فى 8 مايو 68م ومن هنا كانت كرامة مدينة الإسكندرية والتى على أثرها أصبح أسقف الإسكندرية الذى يتم اختياره من الرهبان يأخذ لقب «بابا وبطريرك». بلغ الاضطهاد شدته فى عهد الإمبراطور دقلديانوس الذى حكم فى الفترة (284 – 305م) وكان عدد القبط فى عهده لا يقل عن 20 مليوناً، استشهد منهم نحو المليون!!

ولعنف الاضطهاد، وكثرة عدد الشهداء، أقام الأقباط نصباً تذكارياً ليخلد ذكرى الاستشهاد فأطلقوا على عصر الإمبراطور دقلديانوس «عصر الشهداء» وبدأوا تقويمهم القبطى بالسنة الأولى التى تولى فيها الحكم وهى سنة 284م، وأطلقوا على كنيستهم اسم «كنيسة الشهداء»، ومن شدة إعجاب المؤرخين الأجانب بصلابة الشعب القبطى وقوة إيمانه بعقيدته، قالت المؤرخة الإنجليزية «بوتشر» كلمتها المأثورة: (لو تزحزح الهرم الأكبر عن مكانه، لن يتخلى القبطى عن إيمانه). ومن هنا فإنه فى كل عام يحتفل القبط بعيد النيروز برأس سنتهم القبطية فى 11 سبتمبر (أو 12 سبتمبر فى السنة الكبيسة) إنما يعيدوا ذكرى شهدائهم الأمجاد. ويشهد التاريخ أن الأقباط على مر العصور كان رؤساؤهم يتسابقون إلى الاستشهاد ويهربون من الكرامة والكراسى الرئاسية، فسجلوا تاريخاً مشرفاً لكنيستهم المجيدة. الاستشهاد يقبله من وضع فى نفسه حكم الموت الإرادى اليومى. ليت التاريخ يعود!!