رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بقايا الدولة بين العـناد والاستبداد


وتبقى كلمة أوجهها للمسئول الأول عن الدولة، إن الاستقرار لن يتحقق مهما كانت نتيجة الاستفتاء فى ظل عدم رضا أقباط مصر شركاء الوطن، وغضبة القضاة وحصار الدستورية قدس أقداس العـدل فى الوطن، وانفصال قرى ومدن ومحافظات تعـلن استقلالها عـن الوطن حتى لـو كان ذلك صوريـا.

دستور الدولة هـو الذى يقـرر نظامها السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وغالبـا ما تصدر الدساتير بعـد ثورات الشعـوب عـلى حكامها للتخلص من استبدادهم، فدستور إنجلترا Magna Carta صدر بعـد ثورة النبلاء والكنيسة على الملك عام 1215 ، وصدر دستور فرنسا بعـد ثورتها عام 1789، أما روسيا فقد صدر دستورها بعـد الثورة البلشفية عام 1917، وبالتالى فإن دساتير ما بعـد الثورات تتميز بخصائص تميزها عن الدساتير التى يتم وضعها فى الظروف العادية، فالخاصية الأولى هى صدورها فى ظروف ثورية استثنائية، والثانية مترتبه عـلى الأولى وهى أن الشعـب هو مصدر السلطات، وبالتالى تكون سيادة الشعـب هى المبدأ الرئيسى الذى يستمد منه الدستور شرعيته ومشروعيته، فالدستور إذن يشكل ضمير الأمة ويمهد سبيلها ويصيغ مستقبلها، ويعـتبر الطاقة المحركة لها التى تدفعـها إلى التقدم والازدهار والاستقرار، أو تجرها إلى التخلف والتراجع والانهيار، فإلى أى اتجاه يمكن أن ينقـلـنـا الدستور المطروح أمام الشعـب للاستفتاء عـليه خلال الأيام القليلة المقبلة؟ خاصة بعـد أن اقتربت الساعة وانشق الوطن.

ولكى يكون للإجابة لدينا نقطة انطلاق سليمة عـلى طريق الإجابة عـن هذا السؤال يتعـين أولا تحديد الأسباب الحقيقية التى أدت إلى انشقاق الوطن، ففى يقينى أن إصدار الإعلان الدستورى المكمل فى 21 نوفمبر كان نقطة البداية الحقيقية للأزمة السياسية الخانقة التى تمر بها البلاد، فقد تضمن مواد تمثل أقصى درجات الإستثناء خاصة تلك التى تتعـلق بتحصين مجلس الشورى واللجنة التأسيسية الثانية لوضع وصياغة الدستور، وتحصين قرارات وقوانين الرئيس السابقة واللاحقة، وعـزل النائب العام وإعادة محاكمة رموز النظام السابق، وقد أدى هذا الإعلان إلى تقسيم المجتمع المصرى إلى تيارين أحدهـما مؤيد والآخر معـارض، مما كرس حالة الاستقطاب والتحريض السياسى، فانتشر البغض والكراهـية فى المجتمع إلى حد تبادل العـنف، وتلى ذلك احتفال كبير تسلم فيه الرئيس مسودة الدستور بين صحابته ووزرائه وأعضاء جمعـيتـه التأسيسية، فكان ذلك إيـذانـا لتأجج مشاعـر التيار المعارض، وبدأ الحشد والحشد المضاد بين التيارين، إلى أن التقى الجمعان فى موقعـة الاتحادية فكانت نذيـر شؤم صبت نتائجها فى اتجاه معاكس لاستقرار البلاد وأصبح المجتمع المصرى وكأنه أمام صراع اجتماعى ممتد خاصة مع تـزايــد الانكشاف الأمـنـى المتعـمد! وظهرت الميليشيات المسلحة فزادت عـوامل الهـدم حيث أصبح السلاح بجميع أنواعـه وأعـيرته وذخائره متاحا لمن يريـد، فانـتـشـرت الـفـوضى وعـمَت الـبلـطجة إلى حـد إحكام حصار المؤسسات السيادية كالمحكمة الدستورية العـليـا ومنع قضاتها من أداء مهمتهم، وقصر الاتحادية ومدينة الإنتاج الإعلامى والاعـتـداء عـلى ممتلكات وأراضى الدولة لبناء ما يحتاجـونـه للإقامة وقضاء حـوائجهم، وهو ما ينذر بنشوب حرب أهلية يمكن أن تتأجج مع تنامى الانفلات السلوكى والانهيار القيمى والأخلاقى للمجتمع، وفى غـياب كامل للإرادة القومية لجميع عـناصر الدولة.

وبدلا من أن يضع الرئيس مصر على أعـتاب نقطة الانطلاق السليمة على طريق الديمقراطية الحقيقية، وبدلا من أن يبـدأ حقـبـة جديـدة فى تاريخ مصر تستحق أن تدون له بأحرف من نور فى سجل تاريخها الممتد، وبدلا من أن يحقق لشعـبه الأمل المعـقود عـليه بعـد انتخابه فى إحداث تغـيـيـر جذرى فى بيئتها الاستراتيجية، راح يدعـو إلى حوار مجتمعى مشروط تحضره القـوى السياسية بما فيها قوى المعارضة وعـدم التراجع قيد أنملة عن قراراته السابقة، فتمخض الحوار المشروط عن الغاء إعلان نوفمبر 2012، وإصدار إعلان آخر يؤكد فيه قراراته، فليس صحيحا أن الدكتور مرسى قد ألغى إعلانا أو استبدله بآخر، ولكن الصحيح أنه قد أضاف عـلى الإعلان السابق إعلانا آخر، بعـد أن أصر حواريـوه على أنه يصير صحيحا كل ما ترتب على الإعلان الذى تم إلغاؤه من آثـار، وهو ما يعـنى استمرار العـدوان عـلى السلطة القضائية وتحصين مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لإعـداد الدستور وعـلى منحه سلطات مطلقة، ثم قام بتحديد موعـد للاستفتاء على الدستور الجديد بعـد أن أفـتى جهابـذة القانون المجتمعون بعـدم جواز إرجاء الاستفتاء عـليه اتساقا مع المادة 60 من إعلان مارس 2011، وهو قول مغـلوط بشهادة المستشار البشرى وهو الرجل المسئول عـن إعـداد وصياغة الإعلان الدستورى الذى اتخذوه متكئا لتبرير ما ذهبوا إليه، إذ صرح فى جريـدة« الشروق» الصادرة يوم 10 ديسمبر أنه يترتب على المادة 60 مسئولية سياسية فقط إذا خالفها رئيس الجمهورية، ولا يترتب عـليها مسئولية قانونية، فاحتدم الصراع وتعـقدت الأزمة إلى الحد الذى يصعـب إن لم يستحل معـه التنبؤ بفعـل أو رد فعـل التياريـن المتعارضين، حيث تناقضت التصريحات وتباينت الاتهامات فى عـناد واستبداد واستكبار، وفى غـياب كامل للإدراك الجمعى بالمخاطر والتهديدات التى تحيـق بالأمن القومى المصرى من كل باب، فلم يـدرك أحد طبيعـة الأخطار والتهديدات الـتى تـتعـرض لها الدولة فى جميع اتجاهاتها الاستراتيجية الثلاثة «شرقا وغـربا وجنوبا»، ولم تضع جميع القوى السياسية فى معادلاتها السياسية أو حساباتها الاستراتيجية الثمن الباهظ الذى يمكن أن تتكلفه مصر فى حالة فقدان أحد أطرافها، وبالرغم من ذلك فإنه يمكن للدولة فى حالة تماسك بنيانها استعادة ما فقدته من أطراف حتى ولو كان ذلك بعـد حين، أما أن يكون التهديـد من الداخل فى القلب فسيكون التهديد أشد خطرا وأعـظم أثرا قد يؤدى إلى انهيار الجسد كله، وحينئذ تتساقط الأطراف كلها، فما أشد خطر التفتت والتشرذم والتمزق الذى نحن فيه، يومئذ سيندم الجميع يوم لا ينفع الندم.

أخيرا أقول للمسئولين عن الحالة التى وصلت إليها البلاد: أفلم تنظروا إلى طبيعة الظواهر التى خلقها الله سبحانه، أفلم تنظروا إلى السماء فوقكم وإلى الكون حولكم كأكبـر ما خلق الله معـلوم للإنسان كيف تجذب الأجرام السماوية والكواكب والنجوم بعضها البعـض فى السماوات العلا التى رفعها الله سبحانه بغير عـمد ترونها سعـيا وراء تحقيق حالة الاستقرار، أفلم تنظروا إلى الذرة كأصغـر ما خلقه الله معلوم للإنسان كيف تسعى للالتحام مع ذرة أخرى أو ذرات أخرى لتكوين الجزىء سعيا للاستقرار، أفلم تنظروا إلى الجزيئات كيف تلتحم لتكوين المادة كجزيئات الأكسجين والأيدروجين لتكون المياه التى خلق بها الله كل شىء حى، أعجزتم أن تلتحموا وتتوحدوا كقطرة مياه واحدة فجعـلتم من الدستور مادة للصراع والاصطدام بدلا من أن تجعـلوا منه مادة للوئام والالتحام.

وتبقى كلمة أوجهها للمسئول الأول عن الدولة، إن الاستقرار لن يتحقق مهما كانت نتيجة الاستفتاء فى ظل عدم رضا أقباط مصر شركاء الوطن، وغضبة القضاة وحصار الدستورية قدس أقداس العـدل فى الوطن، وانفصال قرى ومدن ومحافظات تعـلن استقلالها عـن الوطن حتى لـو كان ذلك صوريـا، فأصلح عـوار تشكيل الجمعـية التأسيسية التى وضعـت دستورا عـمَق انقسام المجتمع المصرى، وأخل بتوازن الرقابة المتبادلة بين مؤسسات الدولة، ففقد الاستفتاء شرعـية ومشروعـية حتى أصبح الاحتكام إلى صناديق الاستفتاء مجرد ممارسة غـيـر ذات جدوى، فأصلح ما بين رعايـا الدولـة ووحد صفوفها، وأدعـو إلى حوار مجتمعى حقيقى يوحد الأفكار ويؤلف بين القلوب، وإن لم تفعـل ستصبح مصر مجرد بقايا دولة تحكمها بأنقاض نظام فى ظل العناد والاستبداد المتبادل، واعـلم أنك المسئول الأول والأخير لأنك الحاكم، وقل الحق من ربكم ، فالحق أبلج والباطل لجلج كقولكم المأثور.

والله من وراء القصد وهـو يهدى السبيل.

■ أستاذ العلوم السياسية بجامعة بورسعيد

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.