رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزحام .. وأهواله!


منذ شق النيل مجراه بطول الوادى، والبشر يتكأكأون من حوله كمجتمع زراعى طلبًا للخضرة والنماء والرزق وحسن الجوار والعِشرة، ولكن كان هذا التجمع على ضفتى النيل بطول مجراه الثعبانى من المنبع إلى المصب، ولم يفكر أحد من هؤلاء ـ إلا قليلاً ـ فى الدخول إلى عمق الصحراء خوفًا من قسوتها وهجيرها، فكانت زيادة السكان حول المجرى نوعًا من العشق الأبدى لهذا النهر الخالد الذى قدسته الأساطير الفرعونية ولقبته بـ «حابى» إله الخير . ومع نمو الحياة البشرية الطبيعية ازدادت العائلات والقبائل عددًا وعتادًا، والارتباط بالمصاهرة والمشاركات فى المجتمع الزراعى الجماعى، ولإحكام السيطرة على النيل الذى كان يتمرد عليهم ويفيض على مساكنهم وأراضيهم.

وعلى هذا النحو مرت السنوات، فلم تزد رقعة مايشغله السكان ـ إلى يومنا هذا ـ عن 6% من مساحة مصر الجغرافية الممتدة. وهذا لم يأت إلا نتيجة لارتباط المصرى بعائلته وأبناء جلدته، وقد كان فى هذا الوضع قديمًا كل الراحة لقاطنيها؛ لاتساع الرقعة الزراعية التى تكفى حاجة السكان وتمدهم باحتياجاتهم الحياتية الضرورية، ولكن مع زيادة الأعداد وتفتيت المساحة المملوكة عنطريق الإرث الشرعى، تفاقمت مشكلة عدم الكفاية خاصة فى الأوقات التى أتى فيها النيل شحيحًا بخيلاً بعطاياه ـ كما حدث فى عصر النبى يوسف ـ لتبدأ طبيعة دخيلة على طبائع المصرى وهى زيادة الحرص على ممتلكاته ومصدر معيشته، لأن المساحة ثابتة وأعداد الأفواه الطالبة للقوت والحياة فى زيادة مضطردة.

ومع زحف المدنية والتطور فى التحولات من المجتمع الزراعى إلى المجتمع الصناعى، كانت العواصم هى كعبة من ضاقت بهم السبل حول الرقعة الزراعية،فازدحمت العاصمة بما هو فوق طاقتها من التحمل من حيث البنية التحتية والخدمات الأساسية، لتبدأ مشاكل مجتمعية من نوع ٍ جديد لم تكن فى الحسبان وظهور ماأسموه علماء الاجتماع بعقلية أو فلسفة الزحام، وكيف تنعكس هذه الفلسفة على الطبيعة البشرية بالسلب لتغير بعضًا من خصالها وعاداتها التى نشأوا عليها فى المجتمع، وما تتركه من انفعالات تؤدى إلى بعض التفكك غير المحمود فى العلاقات الاجتماعية وروابط الجوار، الأمر الذى يجدر بنا حياله أن نعيد التفكير فى التوزيع الجغرافى للسكان بالتوسع فى إنشاء المدن الجديدة لامتصاص الأعداد الهائلة التى تختنق فى مساحة ضيقة، وسيقول قائل: إنه قد تم بالفعل إنشاء وتخطيط مدن جديدة على أطراف العاصمة والدلتا، ونرد عليه بأن هذه المدن لم تأت بالنتائج المرجوة التى أنشئت من أجلها، لأنها لم تخضع لخطة مدروسة كالتى وضعت فى الستينيات من القرن الماضى لمدينة المحلة الكبرى التى كانت إحدى قلاع صناعة النسيج فى مصر، حيث كان أصحاب الأيدى العاملة فى هذه المصانع يحصلون على السكن المجاور للمصانع فى شبه «كميونة» فى مربعات سكنية معدة خصيصًا لهم، عكس مايحدث الآن فى المدن الجديدة، فأصحابها حصلوا عليها بأبخس الأثمان وأغلقوها وظلوا فى إقامة دائمة بالعاصمة أو حولها. إذن فلابد من الاتجاه بفاعلية إلى غزو الصحراء الشاسعة من حولنا واستغلال خيراتها، الأمر الذى سيؤدى بالضرورة إلى اختفاء المشاكل الحياتية اليومية التى يعانى منها سكان العاصمة بل وامتدت إلى باقى مدن ومحافظات مصر كلها، خاصة مع المشكلة التى تفاقمت أخيرًا وهى مشكلة المرور، التى تتسبب فى إهدار الطاقة سواء كانت تلك الطاقة مادية أم بشرية، وضياع الملايين من رصيد عمر الإنسان وساعات العمل التى تذهب هباء فى الشوارع نتيجة الاختناقات المرورية وما يتبعها من عواقب وخيمة فى صدامات البشر مع بعضهم البعض كنتيجة حتمية للزحام والازدحام وأهواله.

ولعلنا نتذكر فيلم «الكيت كات» الذى حذرنا من هذه المشكلة مبكرًا، وتم تجسيدها على الشاشة البيضاء وإلقاء الضوء على ما يترتب على الزحام والتزاحم من إهدار لبعض القيم والمثل العليا، بالعلاقات الخلفية التى تبدو منطقية فى مجتمع يكاد يعيش وهو متلاصق الأكتاف وكل أسراره مكشوفة لمن يدقق النظر ليعرف الأمراض العضال للمجتمع، فلعلنا نحاول جادين أن نجد الدواء لهذا الداء الذى صنعته الغفلة من المسئولين الذين سمحوا بزرع هذه العشوائيات فى جسد المجتمع المصرى، لتظل قنبلة موقوتة احتمال انفجارها فى أى لحظة من لحظات فوران الغضب وما أكثرها فى هذه الأيام.