رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إطلالة على أرقى الفنون «الباليه»


تكوين الجسد الإنسانى بكل تفاصيله له روعته وجماله، قال تعالى: «ولقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم». لذا كان الإنسان دائمًا يتباهى بروعة تكوينه وبه يعبر عن مشاعره فى لحظات الفرح والحزن ؛ بأن يفرد ذراعيه فى الهواء كالعصفور الطليق، ولو كان يملك أجنحة كأجنحة الطيور لقام بالتحليق عاليًا...
... ولعلنا نذكر المشهد التاريخى الرائع فى فيلم «زوربا» الذى جسده «أنتونى كوين» حين قام بأداء رقصته الشهيرة فى أقصى لحظات الانكسار، تاركًا لمشاعره حرية التعبير عمَّا يجيش بخاطره ليمتص انفعالاته الداخلية فى اللقطة الحاسمة من الفيلم! فما بالنا بالرقص فى لحظات الفرح والانتصار.

من هنا.. بدأت فكرة التعبير بالجسد عن مكنون الأرواح والقلوب فى كل الحالات التى تمر بها النفس البشرية وانفعالاتها، ولعل السادة الذين يحاولون التوثيق لرقصات الشعوب تاريخيًا بالإدعاء بأن فن الرقص بدأ فى قصور الأمراء والطبقة الارستقراطية فى إيطاليا تعبيرًا عن التباهى بقوتهم الاقتصادية والمادية.. قد تناسوا جدران المعابد فى «طيبة» التى قامت بالتوثيق لأسبقية المصريين بالنحت وتجسيد هذه الرقصات على «قلب» الحجر بإزميل الفنان القديم.

ولكن.. وطبقًا لعاداتنا الشرقية المتجمدة التى زرعها فينا الاستعمار القديم بغية الإبقاء علينا فى مؤخرة الشعوب، نجد أن البيت المصرى مازال ينظر إلى فن الرقص على أنه «سبَّة» فى جبين من يقوم بالتعبير عن أحاسيسه به، برغم أننا نرى فى «النوبة القديمة» أن عادة الرقص موجودة ومتأصلة حتى فى الجنائزويقومون به على إيقاعات جنائزية حزينة أقرب إلى حفلات الوداع لمن غاب عن العالم إلى حيث الحياة الأبدية، وفى الأفراح تشارك العروس بالرقص أمام العريس لاستعراض جمال قدها ومهاراتها الإنسانية التى تعد الزوج بحياة سعيدة فى ظل المعتقدات الموروثة من قديم الزمن. وكم من مواهب خلاقة تم قمعها رضوخًا لهذا النوع من المفاهيم والعادات، وليس التخلف فى فهم فن الرقص وحسب، ولكن ربما فى شتى مجالات الفنون والإبداعات الإنسانية الخلاقة.. لأن الأسرة المصرية تعتبر أن هذه الفنون خاصة فن الرقص رجسُ ُ من عمل الشيطان عليهم اجتنابه. فى الوقت نفسه وباستعراض التاريخ لهذا الفن الراقى نجد أن الملك لويس الرابع عشر، اشترك فى عروض الرقص بنفسه، حيث لعب أدوار البطولة فى ست وعشرين رقصة باليه ضخمة، وفى عام 1661 أصدر أمرا بتأسيس مدرسة لرقص الباليه سميت بـ«معهد الرقص الملكى»، وبدأ تأليف وتنظيم التدريب لرقص الباليه، وحدد حركات الأيدى والأرجل فى رقصاته، واستمر هذا النظام حتى اليوم. وفى النصف الثانى من القرن السابع عشر، خرج فن الباليه من القصور وصعد خشبات المسرح وأصبح فنا مسرحيا متكاملاً يعتمد على الموسيقى وإيقاعات الجسد فقط دون «مونولوج حوارى» اكتفاء بما يشبه ما نسميه الآن بفن «البانتوميم» فى التعبير عن الأحداث التى تقوم عليها المسرحية. وبالنظر إلى واقعنا المصرى الذى يرى أن فن «الباليه» أصبح الآن مقتصرًا فى تذوقه على طبقات بعينها من الميسورين وعلية القوم الذين لا يدخرون وسعًا فى إنفاق المال لملاحقة عروض الباليه العالمية، ويستخدمونه كنوع من المباهاة والاستعلاء على الطبقات الفقيرة . ورغم كل هذه التحفظات رأينا من الفنانين المصريين من كسر هذا الجدار الوهمى وبرع فى فن الباليه أمثال الفنان أحمد يحيى.. والفنانة مايا سليم.. والفنان نيللى كريم وغيرهم ممن أسسوا مدارس لتعليم هذا الفن أو ممن شكلوا فرقا للباليه خاصة من الموهوبين، وخرجوا بهذا الفن الى العالم الخارجى ليعلنوا للعالم أن مصر صاحبة ريادة فى كل مجالات الفنون، ولهذا أنشأت الدولة المعهدالعالى للباليه ملحقًا بأكاديمية الفنون ليكون متنفسًا لأصحاب المواهب فيه لتنمية قدراتهم وتعلمه على يد أساتذة متخصصين، من المصريين وغير المصريين من روسيا تحديداً. ويبقى بعد هذا اعتراف الأسرة المصرية بحق أبنائها فى اختيار وممارسة مايعشقون من فنون، بل أطلب من الناس فى بلادى ألا يخجلوا من الكتابة فى بطاقة الهوية: المهنة راقص أو شاعر أوفنان، أسوة بما قام به مؤسس فرقة «رضا للفنون الشعبية» الفنان محمود رضا الذى كان أول من كتب فى البطاقة بجرأة أن المهنة «راقص»، فهل نحن نتقدم إلى الأمام أم تشدنا العادات والتقاليد إلى الخلف!! أليس من حق كل إنسان أن يفخر بعمله الذى برع فيه ويزهو به مهما كانت نظرة المجتمع وتقييمها له ولنا فى الممثل المصرى مثال فقد كانت شهادته فى المحاكم قديما لا يعتد بها ومع هذا صمد من يعملون بهذا الفن حتى أثبتوا جدارة وصاروا نجوما لهم مكانة فى المجتمع بل ومريدون.. فلنلحق بركب الحضارة إذن الذى سبقنا بملايين الفراسخ فبالعلوم والفنون «كل الفنون» ترقى الأمم وتتقدم شعوبها.