رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبدًا لن ينطفئ مصباح « نـور» الشريف


عجبًا.. أن تتساقط أوراق الخريف فى «أغسطس»، وكأنه إنذارٌ بقدوم إعصار لا يرحم ليقتلع فى طريقه أوراق شجرة الفن والإبداع الحقيقى تباعًا فى ربوع بلادى، هذه الشجرة العظيمة التى نحتمى بظلالها من هجير الحياة وأدعياء الفن الدخلاء على عالمه فى غفلة من الزمن، وآخر الأوراق التى سقطت هى ورقة الفنان القدير محمد جابر محمد عبد الله، والشهير فى عالم السينما المصرية والعربية بالاسم الفنى «نور الشريف» والذى تعتبر رحلة حياته مزيجًا من العذاب والمتعة والأرجح بين الفشل والنجاح.

هذا الفنان الذى شهدت مولده شوارع حى السيدة زينب بالقاهرة، كما شهدت أيضًا مباريات «الكرة الشراب» التى برع فيها وانتهت به إلى التحاقه بصفوف فريق أشبال نادى الزمالك المصرى فى مطلع الستينيات من القرن الماضى، ولكن شغفه الشديد بالمسرح والسينما جعله يخلع رداء لاعب الكرة، ليبدأ حياته الفنية عام 1967 عقب تخرجه فى المعهد العالى للفنون المسرحية بتفوق،ولتسوقه الصدفة إلى التعرف على المخرج الكبير سعد أردش، حيث رشحه للعمل فى دور صغير فى مسرحية «الشوارع الخلفية» ثم اختاره المخرج كمال عيد ليمثل فى مسرحية «روميو وجولييت» وأثناء البروفات تعرف على الفنان «عادل إمام» الذى رشحه للمخرج حسن الإمام ليقدمه فى فيلم «قصر الشوق» وحصل عن هذا الدور على شهادة تقدير وكانت أول جائزة يحصل عليها، ليبدأ أولى خطواته فى عالم السينما ويخطف الشهرة ببطولة فيلم «سواق الأتوبيس» لمخرجه المائز عاطف الطيب، هذا الفيلم الذى اعتبره النقاد والأكاديميون مرآة حقيقية تعكس حال المجتمع المصرى فى فترة مابعد النكسة واعتبروه المعادل الموضوعى للسياق العام للأحداث والمفارقات التى يشهدها، وفى هذا الفيلم برز دور هذا الفنان المثقف الواعى الذى احترم الفن فاحترمه الفن وأعطاه المفتاح السحرى لصندوق الأسرار التى يحتوى عليها،الأمر الذى جعله يعيش فى قلوب وذاكرة كل من شاهد روائعه سواء فى السينما أو المسرح الذى جسد فيه معنى الوطنية وقداسة الوطن، فالوطن فى نظر الفنان الأصيل المبدع هو الحضن والدفء والتعب والكفاح والانتصار، إن الفن الواعى بقضايا الوطن والمجتمع؛ هو الأداة التى تدخل إلى القلوب والعقول والأرواح لمحاربة كل فكر متطرف يحاول التسلل إلى نسيج المجتمع ليفسد وحدته ويزرع بذور العطن فى جذوره الممتدة فى عمق التاريخ.ولعلنا باستعراض مسيرة هذا الفنان الذى غادر عالمنا فى الآونة الأخيرة، نجده نموذجًا صادقًا معبرًا عن صلابة الفن.

فلقد جابه الفشل الذريع فى أول أدواره السينمائية عن دوره فى «قصر الشوق» وانهالت عليه طعنات أقلام النقاد وكادت تطيح به خارج عالم السينما والفن عامة، ولكنه بكل الصلابة والإيمان برسالته وموهبته وفنه،استطاع أن يشق طريقه وسط عمالقة السينما والمسرح ليحتل مكانه بينهم بكل الجدارة والاستحقاق، ولعل الحُب القلبى الذى عاش له لشريكة حياته ؛كان الحافز الرئيسى للنجاح والتقدم والإبهار وتقمص كل الشخصيات التى لعب أدوارها بكل التمكن والاقتدار وانتزاع العديد من الجوائز فى المهرجانات العالمية وسط أساطين هذا الفن فى العالم.

وتجدر الإشارة إلى أنه عند التخرج فى قسم التمثيل والإخراج فى المعهد العالى للفنون المسرحية ضمن دفعته التى ضمت المخرجين والممثلين المتميزين فيما بعد : «محمود الألفى» و«محمد عبد المعطى» و«سامية أمين» و«شاكر عبد اللطيف» و«ميرفت سعيد» و«عبد العزيز مخيون» والإعلامية اللامعة «نجوى أبو النجا» وغيرهم، وأعلنت نتيجته بعد أسابيع قليلة من نكسة يونيو 1967، اختلطت المشاعر داخله بين فرحه بتفوقه وحصوله على المركز الأول الذى يؤهله للتعيين معيدا بالمعهد، وحزنه على الهزيمة التى لحقت بالتجربة الناصرية التى ناصرها وتحمس لانفتاحها الثقافى على العالم،

وسعيها لتحقيق العدل الاجتماعى بين الناس، وتأسيسها لبنية أساسية للفنون الرفيعة، تمثلت فى المعاهد الفنية الكبرى بأكاديمية الفنون بالهرم، فصال وجال فى الأدوار المسرحية المحلية والعالمية التى لا حصر لها لعل أبرزها العرض الفانتازى «بعد أن يموت الملك» 1974 آخر كتابات الشاعر «صلاح عبد الصبور» أو من إخراج «نبيل الألفى»، و«ست الملك» لفرقة المسرح القومى 1978، من تأليف د. «سمير سرحان» وإخراج «عبد الغفار عودة»، و«الفارس والأسيرة » 1979 للكاتب الكبيرالدكتور «فوزى فهمى»- رئيس أكاديمية الفنون الأسبق- وإخراج زميل دفعته د. «عوض محمد عوض»، و«لعبة السلطان» 1982 للدكتور «فوزى فهمى» أيضا، وإخراج «نبيل الألفى»، ولفرقة أكاديمية الفنون مسرحية «كاليجولا» 1991 لألبير كامى وإخراج «سعد أردش» التى مثلت مصر فى مهرجان موتريل بإسبانيا، فحصد العديد من الجوائز والتقديرات، ولعل أهمها حصوله على درجتى دكتوراه فخرية فى الآداب، الأولى من جامعة «ميدل برى» الأمريكية عام 2005، والثانية من جامعة «ويلز» البريطانية مع «يحيى الفخرانى» و«محمد منير» و«عمر خيرت»، وجاء فى حيثيات منحه الدكتوراة الأولى أنه «ارتفع بمستوى الأداء التمثيلى إلى نوع من الأدب»، ورغم كل تلك التكريمات كان المهم عنده هو تقدير الجمهور لموهبته وجديته وثقافته وحرصه على ربط الفن بالمجتمع المتحرك داخله لإيمانه بأنه فنان مثقف يدرك مسئوليته تجاه وطنه، ويبحث عن ذاته فى مجتمعه عبر إطلالته من خلال الشاشة الفضية بأعمال فائقة التميز تليفزيونيًا وهى أعمال عديدة لاحصر لها أكَّدت مكانته لديهم فكان زائراً محببًا ينتظرونه بكل الحب واللهفة داخل منازلهم وبخاصة فى رمضان.رحم الله نجمنا المحبوب الذى أنار القلوب بهجة مع كل عمل فنى جاد أحب واحترم جمهوره وفنه فبادله الحب والاحترام ورحل لكن فنه باق بيننا وطلته المائزة عبر الشاشات باقية وهى خير عزاء لنا لتروى حالة الافتقاد لدى كل محبى وعاشقى أدواره المنوعة الموحية الهادفة .. وأكرر مقولتى: المبدعون لا يرحلون بل يغيرون عناوينهم، فهم باقون رغم الفراق بما تركوه لنا من إبداعات وأبدًا لن ينطفئ مصباحك يا «نور»!

أستاذ الدراسات اللغوية- أكاديمية الفنون