رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملائكـة الرحمـة


إن أسمَى المهن التى ابتكرها الإنسان هى مهنة التمريض لما تسهم به من فعاليات لإنقاذ المرضى من خطر الموت بمساعدة بقية الطواقم الصحية، ومهنة «التمريض» التى يطلق على من يعملون فى مضمارها اسم «ملائكة الرحمة» لولا كوادرها المدربة لما برع كبار الأطباء فى نجاحاتهم المتواصلة فى إجراء العمليات الخطيرة ، فنجاحات الأطباء والجراحين مرهونة بأصحاب هذه الأيدى المدربة من أطقم التمريض .
فلولا النظافة والاهتمام الإنسانى الرحيم والعناية
بخدمة مابعد العمليات الجراحية لكان الفشل عنوان مهنة الطب والأطباء، لأن التمريض قائم على الجمع بين العلم والرحمة والأمانة فى الحفاظ على أسرار المريض الذى بين يدى ممرضه سواء كان رجلاً أو إنثى، لأن المريض تحت تأثير المخدر ربما يفشى بعض أسرار دخائله ماديًا واجتماعيًا ونفسيًا، وهذا يتطلب القدرة الفائقة على الاحتفاظ بما عَـرَف من أسرار خفية عن مريضه.

وسأسوق لكم مثالًا رائعًا ـ يجب أن يُحتذى به ـ عن واحدة ممن وهبن أنفسهن فى سبيل رسالة التمريض، والتى يحتفل العالم باليوم العالمى للتمريض فى 12 مايو تزامنًا مع ذكرى ميلادها وهى رائدة مهنة التمريض فى العالم «فلورنس نايتنجيل» التى ولدت فى العام 1820، والمتوفاة فى 13 أغسطس من العام 1910. فهى من عائلة بريطانية ثرية، تلقت تعليمها فى المنزل على يد والدها، وكانت تطمح بأن تخدم الآخرين وتصبح ممرضة ، ولكن والداها عارضاها فى البداية، وعلى الرغم من ذلك إلا أن فلورنس مضت قدمًا فى طريقها لتعلم التمريض ، وحصلت على العديد من الجوائز إحداها من الملكة فيكتوريا، ولم تتردد فلورنس للحظة فى المشاركة فى حرب القرم -التى اندلعت بين إنجلترا وروسيا- وذلك عندما توالت التقارير المختلفة فى بريطانيا عن الظروف المروعة التى يعانى منها الجرحى البريطانيون فى هذه الحرب، قامت فلورنس بتمريض الجنود فى الجيش ، ونتيجة لمجهوداتها فى الحرب تبرع لها الشعب الإنجليزى بالنقود لتنشئ مدرسة لتعليم الممرضات، أطلقت عليها اسم «ملائكة الرحمة»، لتضرب مثالاً رائعًا فى إثبات هدفها الإنسانى وبرهنتها العملية على عدم التكالب على جنى الأموال، هذا عكس مانراه تمامًا فى مستشفياتنا وعياداتنا العامة والخاصة، حيث غلب فى تعاملاتهن مع المرضى والمصابين اهتمامهم المسعور بأخذ ثمن أدنى الخدمات التى يقدمنها لمرضاهن من المريض- أو مرافقيه - الذى يجد تكاليف علاجه بالكاد، وذلك حبَّا للمال وانصرافًا عن الواجب المنوط بهم ؛ ودون النظر إلى احترام المهنة وقدسيتها وبأن الرحمة والإيثار والإخلاص والتفانى هى الصفات «الملائكية « المرجوة منهن.

أما آن الأوان لنا فى مصر أن نأخذ بزمام المبادرة للارتفاع بمستوى التمريض بالعمل على إنشاء كليات خاصة تابعة للجامعة المصرية العريقة، بدلاً من الاكتفاء بالمدارس الإعدادية والثانوية للتمريض التى تقتصر على قبول العنصر النسائى فقط لتدريس بعض المواد المتعلقة بنظام النظافة والتعقيم وتجهيز حجرات العمليات، وهى كلها مواد بعيدة عن ضرورة إلمام من يلتحق بتلك المدارس بعلم التشريح والمبادىء الأولية فى طب الجراحات العاجلة والحوادث وما إلى ذلك مما تتطلبه طبيعة العمل، حتى يكون الدارس مؤهلاً وظيفيًا للقيام بهذه المهمة الحيوية ، مع التركيز على دراسة اللغات الأجنبية بإتقان تام لنضمن حُسن الأداء الخدمى بجانب المتخصصين من الأطباء، مع مواكبة ومتابعة كل مستجدات علم التمريض فى العالم، مع ضرورة إعادة النظر بكل الجديـَّة فى مرتبات هؤلاء وتحسين دخولهم لتشجيع الإقبال على الدخول إلى هذا المجال الإنسانى الراقى وحتى يترفعوا عن استغلال حاجة مرضاهم لخدماتهم طالما توفر لهم مرتباتهم الحياة الكريمة، فبناء الإنسان فى بلادنا لابد أن يكون أكثر أهمية من بناء الصروح العملاقة من مستشفيات ومصانع لتعشِّش فيها عناكب الإهمال والطمع والتردى الذى يذهب بأسمَى المبادىء أدراج الرياح.

يا ملائكة الرحمة .. ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء .. رفقًا بمرضانا.!

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون