رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصندوق الأسود فى حياتنا


ربما لا توجد قضية علمية ينطبق اسمها على محتواها بمثل هذا القدر من التوفيق الذى نجده فى هذه التسمية «الصندوق الأسود». ويواجه الإنسان هذه المشكلة منذ أول خطوة فى حياته تقريباً. وفى محاولة منا للاقتراب من تعقيدات هذه القضية – كما يقول الكاتب الروسى «فيكتور بيكيليس» فى كتابه الرائع بعنوان «الموسوعة الصغيرة فى علم السيبرنيتيكا» أى علم الضبط – سنتناول بالتدرج درجات هذا التعقيد. ما إن يقف الطفل على قدميه ويبدأ فى الحركة داخل سريره حتى يشعر على الفور بالرغبة فى الخروج إلى حيز العالم الكبير، ولكن حيز السرير يمنعه. وهنا يواجه الطفل «صندوقاً أسود»، فهو لا يعرف شيئاً عن تركيب هذا الحاجز ولا عن طريقة تثبيته، فينهمك فى شده بهذه الطريقة أو تلك. واللعبة الزُنبركية هى أيضاً «صندوق أسود»، إذ لا يعرف الطفل ما بداخلها!! كل ما يعرفه هو ملء الزُنبرك، عندئذ تتحرك اللعبة. وبالتعبير العلمى نقول: بـ«الداخل» هناك طاقة الزُنبرك المضغوط، وعند «المخرج» حركة العجلات. وأحياناً تكون أجهزة الراديو والتليفزيون العادية «صندوق أسود»، عندما يتعامل معها شخص لا يعرف شيئاً عن تركيبها. فهى بالنسبة لمثل هذا الشخص معروفة فقط من ناحيتين: عند «المدخل» يوجد التيار الكهربائى، وعند «المخرج» الصوت «بالنسبة للراديو»، أو الصوت والصورة «بالنسبة للتليفزيون». أيضاً فى مجال الإلكترونيات، أمام المهندس جهاز إلكترونى ممنوع فتحه، بينما على المهندس أن يُقرر هل يُرسله للتصليح أم يعتبره تالفاً ويُلقى به!! ومثل هذه المسألة تواجه مهندس التليفونات عندما يجد أمامه أجهزة مُعطلة وليس لديه الحق فى فكها دون أسباب كافية. والطبيب الذى لا يرى غير الأعراض الخارجية للمرض ولكنه يجهل الحقيقة لجسم المريض. أليس هو الآخر يواجه «صندوقاً أسود»؟ مثلاً فى النصف الأول من القرن العشرين كان علماء الوراثة والبيولوجى يقفون مكتوفى الأيدى أمام الأطفال – حديثى الولادة– الذين يعانون من صغر الحجم عند الولادة، والتخلف الفكرى والحركى، وصغر الفم والفك السفلى، وعيوب صيوان الأذن، وعيوب فى الكفين والأصابع، وعيوب خلقية فى القلب، وغيرها!! إلى أن تمكن الطبيبان الباحثان إدوارد وسميث فى عام 1960 من نشر بحث عن حالات متشابهة فى الأعراض المرضية، وأن السبب فى ذلك هو وجود «كروموسوم» زائد فى المجموعة رقم 18 من الكروموسومات التى يبلغ عددها فى جسم الإنسان 47 كروموسوماً. وهكذا أضحى الرقم 18 عند علماء الوراثة وعلم البيولوجى رقماً مسبباً للكثير من المتاعب والتشوهات.

وفى حياتنا اليومية، كثيراً ما يواجهنا «الصندوق الأسود» من خلال بعض المسئولين من فاقدى الرؤية فى إدارة الأمور، فنلاحظ التخبط فى القرارات، وعدم النضج الفكرى، والتمييز فى المعاملة، وانعدام الرؤية المستقبلية. أعتقد أن تصرفات هؤلاء تندرج أيضاً تحت كروموسوم زائد فى المجموعة رقم 18 من الكروموسومات. بينما الأشخاص الأسوياء لا توجد لديهم مشاكلهم، وتلتف حولهم قلوب الشعوب. فثورة 25 يناير كشفت «الصندوق الأسود» لفترة الفساد السياسى فى مصر، وثورة 30 يونيو كشفت «الصندوق الأسود» لفترة الجماعات الدينية المتشددة. فإن واجهتك مشكلة مع شخص غير سوى ابحث عن «صندوقه الأسود».