رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«قاضٍ» دخل التاريخ


يتحرج البعض من الكتابة عن الأحياء من رجالنا، فإذا كتبنا عن أحد الأحياء كتبنا لكى ننتقده، أما العظماء من أمتنا فنحجم عن ذكرهم وتقصى سيرتهم خوفًا من اتهامنا بالنفاق، فنغمط حقهم.

فإذا مات أحد البارزين كتبنا عنه وأقمنا له مؤتمرات التأبين وأفضنا فى ذكر مآثره، وأحيانًا يدخل أحد العظماء من رجالنا فى دائرة النسيان فيموت دون أن نعرف، وتمر السنوات ويضيع ما قدمه لأمته، ولكن العزاء أن ما قدمه أى عظيم مصرى لبلده لن يضيع عند الله سبحانه وتعالى.

واليوم أكتب عن رجل من رجالات مصر العظماء، قدم لبلده فى فترة فارقة من تاريخها دون أن ينتظر جزاء ولا شكرًا من أحد، ويالهذا الرجل الغريب الذى سأحكى لكم عنه، إذ كان فى مقدوره أن ينعم فى منصبه القضائى ويستنيم للحاكم الإخوانى الجديد، يقضى وقته فى هدوء ودعة وسكينة، حيث لا تهديد ولا معارك، ولا أحد يخطط لاغتياله أو يشرع فى ذلك فعلاً، يخلو إلى مكتبته فيتصفح منها ما يسره من الكتب ويبهج خاطره، ويجلس مع أحفاده يلاعبهم وهو هادئ البال مطمئن الوجدان، وإن عرض له عارض من عوارض الدنيا كان فى إمكانه أن يقبل ما عرضوه عليه من مناصب وزارية فيختم حياته القضائية وهو سيادة الوزير، أو سيادة نائب رئيس الوزراء، ثم ذات يوم يكتبون فى سيرته: ولد فى يوم كذا وشغل مناصب وزارية كذا وكذا.

ولكن مناصب السلطة التنفيذية مهما علت لا يمكن أبدًا أن تقترب من السمو والإجلال الذى يحيط بهالته النورانية كرسى القضاء، كما أن هناك طائفة من الناس خلقهم الله من أجل أن يدافعوا عن أمتهم فى الملمات، فيقودون للحق ولا يقبلون أن يقادوا للباطل، ومن كانت رسالته أن يكون قائدًا فى الحق وللحق، فانظر إليه ستجد طعنات الباطل تُدمى جسده وتثخن جراحه، وانظر إلى ألسنة خصومه ستجدها وقد امتلأت بالبثور والندوب من أثر قول الزور والبهتان الذى ألحقوه به، والتاريخ يحدثنا عن هذا الصنف من الناس، منهم من إذا حضرته الوفاة بكى لأنه يقضى نحبه فى فراشه وليس فى أرض المعارك ومنهم من تقول عليه الناس واتهموه بكل نقيصة وهو فى الحقيقة ارتفع إلى أسمى مراتب الشرف ولكنه لا يبالى بالذى يدَّعونه، فمن ابتغى رضاء الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن ابتغى رضاء الله بسخط الناس رضى الله عليه وأرضى عنه الناس، ومن هذا الصنف من الناس المستشار أحمد الزند - رئيس نادى القضاة - الذى كان أحد الشخصيات الزعامية التى وقفت بكل قوة ضد الإخوان أثناء حكمهم المنحوس لمصر فهو مقاتل قوى الشكيمة، لا يهادن ولا يمالئ، إذا رفعوا سيوفهم من غمدها فى مواجهته لم يهب أو يتراجع، وإذا وعدوه بالعطايا والمناصب ألقاها من وراء ظهره، هو مثل «بروميثيوس» الذى قال عندما اجتمعت عليه الخطوب سأعيش رغم ضراوة الأعداء كالنسر فوق القمة الشماء، أرنو إلى الشمس المضيئة هازئًا بالسحب والأمطار والأنواء، وأقول للجمع الذين تجشموا هدمى، وودوا لو يخر بنائى، العبوا يا معشر الأطفال تحت سمائى «والزند ليس بدعًا من رجال القضاء الكبار الذين قدموا لبلادهم، فالتاريخ يذكر وسيظل يذكر المستشار ممتاز نصار الذى وقف ضد جمال عبد الناصر فى عز جبروته عندما أراد ضم نادى القضاء للاتحاد الاشتراكى، ثم أصبح فى عهد السادات أحد كبار المعارضين الوطنيين الشرفاء، وأيضاً المستشار وجدى عبد الصمد الذى جاهد عمره كله من أجل استقلال القضاء، ومن قبلهما المستشار عبد العزيز فهمى الذى كان أول رئيس لمحكمة النقض، والذى وضع كثيرًا من قواعد العدالة التى تسير عليها المنظومة القضائية، وها هى لوحة العظماء تنتظر من يخط اسمه فيها بيمينه.

والحديث عن المواقف يقتضينا بطبيعة الحال أن نتحدث عن الرجال الذين قادوا وجاهدوا وكافحوا، فليس المستشار أحمد الزنذوحده الذى كان ينافح عن القضايا المصرية للشعب المصرى، وإلا نكون قد جردنا أصحاب الفضل من فضلهم، ولكن كانت هناك مئات بل آلاف من المجهولين من الجيش والشرطة وآخرين من الشرفاء الذين أسهموا بشكل فاعل ومؤثر فى ثورة الثلاثين من يونيو، لم يقترب النوم من جفونهم أثناء حكم الإخوان إلا لدقائق أو ساعات قليلة، فكيف تنام العيون والمؤامرات تُحاك من الأصدقاء قبل الأعداء، أو قل من الأعداء بمعاونة الأصدقاء الذين باعوا أنفسهم! ولكن القلوب التى صيغت على أرض مصر، واستلهمت أفكارها من الآباء الأولين الذين أقاموا صرح الوطنية المصرية، لا يمكن أن تلين فى يد السحرة، أو تضعف نبضاتها أمام سيف الباطل الذى حمله الإخوان.. هؤلاء كانت لهم وقفات ووقفات، لم يسلموا فيها من الأذى، ولكن التاريخ يشهد أنهم كانوا رجال الوغى، وإذا كان هناك تاريخ يصنع الرجال، فإن هناك رجالاً يصنعون التاريخ وقد كان الشعب المصرى من صناع التاريخ.