رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إهانة الرئيس فقهاً وقانوناً


حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيتها مع الاتجاه العام فى بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها، وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة

حرية الرأى والتعبير قيمة عليا فى حياة الناس، وهى من مصادر الخلق والإبداع وتنمية الخيال الأدبى والفنى فى كل الاتجاهات الممكنة، فضلا عن أنها تعطى الأمل والثقة للناس فى قيام نظام اجتماعى وسياسى سليم يحترم الفرد ويقدر مشاعره وضميره الأدبى، وتعطى حرية التعبير للإنسان قدرة المشاركة بإخلاص وفعالية فى الحياة الاجتماعية العامة والمساهمة فى دفع التقدم الاجتماعى إلى الأمام مما لا يفسح المجال أمام نمو النفاق الاجتماعى وطغيان الانتهازية وسيادة العلاقات المزيفة القائمة على المصالح الشخصية البحتة التى تجد ضالتها فى عهود الظلام وكبت الحريات.

ويقول الشاعر بيرم التونسى، وهو يتعرض لأهمية حرية التعبير وممارسة حق النقد «ولولا النقاد لهلك الناس، وطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأراذل ظهر الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال».

ذلك أن الإنسان كائن فكرى، ويغطى الفكر مجمل نشاطاته العقلية والبدنية، فما نقوم به من نشاطات ذهنية وما نتحرك ماديا إلا بناء على فكرة مسبقة، وحركة الفكر الإنسانى، هى الحركة الأهم فى حياتنا جميعا، لما يترتب عليها من رؤى ونشاطات تتم ظهر بصورة منوعة من الإبداع الإنسانى كالنتاج الفنى والأدبى والعلمى فضلا عن السلوك الاجتماعى اليومى لبنى البشر ونشاطهم البدنى، ومثلما تحكم قوانين المنطق نظام الكون، فإنها تحكم سياقات الفكر الإنسانى أيضا باعتباره جزءاً من ذلك النظام، وحينما تتحقق الحرية بأنواعها وتفصيلاتها الدقيقة فإن ذلك يدفع بالفكر الإنسانى إلى أقصى حدوده الممكنة، وهذا ما يذكرنا بالأفكار الخلاقة التى نمت وازدهرت فى عصور النهضة الأوروبية التى كانت نتاجا وابنا شرعيا لنمو وتطور الحريات العامة، وحينما تتعرض حركة الفكر لقيود خارج حدود قوانين المنطق، أو حينما تستبعده عن العمل والتأثير سلوكيات مثل التعصب والهوى والإرادة الطائشة والرغبات الآنية وخاصة السياسية منها، فإن حجب الفكر النير المتطور عن عقول الناس ونظرهم فلا شك فى أن يحل محله ما هو متخلف وسلفى وحرية التعبير لا تعنى تعليق الحرية على صحة التعبير أو على مدى مطابقته لمعايير جامدة لا يمكن أن تتطور بتطور المجتمع، وانسجاما مع ذلك ذهبت المحكمة الدستورية العليا فى مصر فى حكم لها بشأن حرية الرأي بشكل عام إلي القول .. حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيتها مع الاتجاه العام فى بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها، وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التى تتصل بتكوينه ولا عائقا دون تدفقها، وحيث إن من المقرر كذلك إن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التى تتولد عنها، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة عليه نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها، بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها وعلانية فتنص المادة 179 من قانون العقوبات المصرى على «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 24 ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات كل من أهان الرئيس» فى البداية نوضح أن المناخ السياسى والثقافى والاجتماعى يؤثر بقوة على مفهوم العيب والإهانة فى الجرائم التعبيرية وقضايا النشر تماما كما يؤثر مدى الإيمان بحرية الرأى والتعبير وانتقاد القائمين على الحكم والشخصيات العامة ورئيس الدولة، فجريمة إهانة الرئيس لا تختلف كثيرا عن الركن المادى فى جريمة إهانة الموظف العام من فى حكمة فى نص المادة 179 من قانون العقوبات وتخضع هذه الجريمة «إهانة رئيس الجمهورية» لنفس الضوابط المقررة للإهانة بصفة عامة كثيرا ما يحدث خلط بين الإهانة والسب لأن كل منهما يمكن أن يكون مبهما وغامضا، فالإهانة لفظ عام يشمل كل ما يفيد معنى العدوان على الكرامة أو الاعتبار، كما أن القانون استعمل كلمات القذف والسب والإهانة بمعنى واحد تقريبا ويعاقب على نشر الألفاظ التى تخدش الأشخاص واعتبارهم سواء كانت تلك الألفاظ قذفاً أو سباً أو افتراء أو إهانة الرئيس كما عرفها الفقه القانونى هى «كل فعل أو لفظ أو معنى يتضمن المساس بالكرامة أو الشعور أو الإخلال من شأن الرئيس الدولة فتشمل كل ما يمس الشرف أو الكرامة أو الإحساس ولا يشترط لتوافر الإهانة أن تكون الأفعال أو الأقوال مشتملة على القذف أو سب بل يكفى أن تدخل العبارات التى توجه لشخص رئيس الجمهورية وتشمل على نقد لأعماله فى إطار النقد المباح طالما أنها لا تشمل على تعريض من شأنه أو يضعف من سلطة رئيس الجمهورية أو ينقص الحق الذى يستمده من الدستور، كما ينبغى أن يعتبر نقد رئيس الجمهورية فى إطار حرية التعبير إلا إذا تم استخدام عبارات مهينة حقا خاصة أن كثيراً ممن ينتقدون عمل الرئيس يطالبون بالإصلاح وهدفهم مصالح الجماهير».

ومن هنا ينبغى اعتبار ما يكتبه هؤلاء أو يصرحون به سواء من المطالبين بالإصلاح أو أصحاب الأقلام الحرة والمعارضين بمثابة نصح وتبصير وتنبيه وليس عيبا أو تطاولاً أو إهانة، والملاحظ أن جريمة السب والقذف وإهانة رئيس الجمهورية تتزايد وتيرتها خلال مراحل الضعف التى تمر بها الدولة ومؤسساتها لأن التشريع المصرى جاء خاليا من تعريف الإهانة وقد لا تختلف المعانى اللغوية للإهانة والسب والعيب كثيرا عن المعانى القانونية وما ذهب إليه الفقه القانونى ولعل المشرع قد رأى أن جريمة إهانة رئيس الجمهورية أشد خطرا من إهانة الموظف العام بوصفه رأس الدولة والواجب احترامه ورأى مبررا لذلك ما تقتضيه الأمر من الاحترام واللازم توافره لشخص رئيس الجمهورية، ويختلف الأمر فى الدولة الديمقراطية حيث يتمتع الأفراد عامة والصحافة خاصة ذوى الصفة العمومية فى نطاق حياتهم وما يعتنقون من مبادئ ومذاهب النقد والتجريح خاصة فى الخلافات السياسية التى تحدث خلال المعارك السياسية التى تحدث خلال المعارك الانتخابية والتطاحن السياسى فلم يحدد القانون العبارات التى تعتبر إهانة فى حق رئيس الدولة بل ترك ذلك لقاضى الموضوع الذى عليه أن يحيط بالوسط الذى تطلق فيه الألفاظ موضوع الاتهام وتقدير ذلك الوسط بمدلولاتها مع الوضع فى الاعتبار التوقير اللازم لشخص المجنى عليه دون التمسك بحرفية العبارات للاختلاف الدلالة باختلاف الزمان والمكان وتخضع لتقدير قاضى الموضوع ولرقابة محكمة النقض فعليه أن يثبت فى حكمه تلك العبارات التى وقعت من الجانى واعتبرها إهانة لرئيس الجمهورية.

أما بالنسبة لإهانة رئيس دولة أجنبية على أرض أجنبية فإن مبدأ حصانة رئيس الدولة الأجنبية مصانة بقوة القانون الدولى فلا يجوز إهانته أو سبه أو قذفه أو سوء معاملته وهو فى مهمة دبلوماسية على أرض أجنبية، وهذه الحصانة موجودة فى الدستور والقانون وفى العرف الدولى وهى محصلة الجمع بين فكرة سيادة الدولة والأمة وفكرة المزج بين هذه السيادة وبين من يمثلها على رأس الدولة حيث يصبح التعرض للرئيس بهذا المعنى تعرضا لسيادة دولته.

■ أستاذ جامعى