رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود دوير يكتب: "جودر" بين سحر"ألف ليلة وليلة".. وشغف البسطاء بالبطل الشعبي

محمود دوير
محمود دوير

وتبقى حكايات "ألف ليلة وليلة" صالحة لصناعة المزيد من الدهشة ويظل الدخول لعالمها المليء بالسحر والمتعة الذهنية والتحليق في سماء الفانتازيا حاضرا حتى مع أجيال الشباب الذى لم يتعرف على تراث الدراما الإذاعية التي شكلت وجدان ملايين العرب وهم يحلقون حول جهاز الراديو الخشبي يستمعون لصوت الراحلة "زوزو نبيل" وهي تردد عبارتها الشهيرة: "بلغنى أيها الملك السعيد"... حتى تقول: "وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح"

هذا العالم المليء بالوهج والتشويق والمغامرة ساهم في أن يجعل مسلسل "جودر" الذى أذيع ضمن السباق الرمضاني الأخير يحقق نجاحا كبيرا ويلفت الانتباه إلى هذا الكنز السردي الاستثنائي "ألف ليلة وليلة"

"ألف ليلة وليلة" التي تتكون من  568 حكاية، كل واحدة منها تحكي قصة بأبطال مختلفين وأماكن وصراعات مختلفة وتبدأ القصة التراثية باكتشاف الملك شهريار أن زوجته وزوجة أخيه تخوناهما  مما يدفعه لإعدامهما،

وفقد بعدها ثقته في جميع النساء، فأراد أن ينتقم منهن، وأصبح يتزوج الفتيات ويقتلهن ليلة الزفاف، ويتزوج الملك من شهرزاد التي تبدأ في سرد الحكايات لكى تنجو من مصير الموت وخلال ألف ليلة ظلت الزوجة تروى الحكايات من بينها حكاية الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان، حكاية علي نور الدين مع مريم الزنارية، حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام، حكاية معروف الإسكافي، حكاية قمر الزمان مع معشوقته وغيرها من الحكايات.

وتشكل حكايات "ألف ليلة وليلة" أحد منابع الدراما التلفزيونية والسينمائية العربية منذ عقود طويلة وقدمت السينما المصرية  في عام 1941 من بطولة  الممثل "على الكسار" والممثلة "عقيلة راتب" فيلم يحمل نفس الاسم "ألف ليلة وليلة"

وبعد نشأة التلفزيون المصري بحوالي تسع سنوات قدم المخرج "شوقي جمعة" والمؤلف "أحمد رشدي صالح " مسلسل تلفزيوني عام 1969 من بطولة محمد الدفراوي وسهير المرشدي.

ومنذ هذا العام أصبحت حكايات ألف ليلة وليلة إحدى المواد الفنية الرمضانية الثابتة كل عام  وحققت نجاحات كبيرة سواء عبر التلفزيون أو من خلال الإذاعة وشكلت وجدان أجيال متعاقبة وترسخت صور مُلهمة لنجوم جسدوا أبطال الحكايات فلم يزل حسين فهمي ويوسف شعبان حاضرين في الذاكرة بروعة تقديم شخصية شهريار كما أن نجلاء فتحي وليلى علوي في مقدمة من تمكن من تقديم شخصية شهرزاد بقدر كبير من الإتقان والحرفية.

ولم يقتصر تناول تلك الرائعة التراثية على الإنتاج المصري بل قدِمت أيضا عام 1974 في فيلم من إنتاج (فرنسي – إيطالي) لعب بطولته كل من" نينيتو داڤولى "و" فرانكو جيتي" كما قدمتها الدراما التركية عام 2006 في مسلسل بعنوان" ويبقى الحب "والدراما المغربية في عام 2014مسلسل من بطولة" يونس بواب "و" نادية كوندا".

وكان عام 2015 هو آخر الموسم الرمضانية التي تقدم بها حكايات ألف ليلة وليلة حين قدمها المخرج" عزيز عبد الرؤوف "والمؤلف" محمد ناير "في عمل من بطولة" نيكول سابا "و" شريف منير".

جودر... عودة قوية

ويرجع  غياب الأعمال المستوحاة من الحكايات منذ عام 2015 إلى تخوف شركات الإنتاج من تقديم تلك النوعية من الأعمال" الفانتازيا " لأنها تتطلب  ميزانيات إنتاجية ضخمة من جهة وفي الوقت نفسه فإن نجاحها الجماهيري غير مضمون من جهة أخرى.

وفي رمضان 2024 عاد بنا كل من المخرج "إسلام خيري" والمؤلف أنور عبد المغيث من خلال مسلسل "جودر" بطولة ياسر جلال وياسمين رئيس ونور وعبد العزيز مخيون ووليد فواز وأحمد بدير وغيرهم.

ونجح المسلسل في تحقيق نجاح جماهيري ونقدي واسع– ربما أكثر من توقعات صناعه –وهذا ما لا يحدث كثرا.

ويبدو أن المخرج "إسلام خيري" الذي بدت مسيرته الفنية عام 2001 كمساعد مخرج مع المخرج الراحل محمد راضي في فيلم "الكومي" قد صار أكثر ولعا بالفانتازيا حيث قدم "خيري" في موسم رمضان 2023 مسلسل "جت سليمة" بطولة دنيا سمير غانم ومحمد سلام وهو عمل يُحلِّق في عالم خيالي جذاب.

ومن أهم أسباب نجاح هذا العمل هو اختيار تقديم حكاية "جودر بن التاجر عمر وأخويه" وهي حكاية في الجزء الحادي والعشرين من حكايات ألف ليلة وليلة تلك الشخصية الشهيرة التي لم يتم تقديمها من قبل في الدراما الفنية وهي تظهر في أكثر من ليلة، وأحداثها تستمر من الليلة 608 إلى الليلة 633.

وكان لدى «جودر» أخوان أكبر منه سنا وهما "سالم وسليم" ترك لهم والدهم قبل وفاته مبلغا من المال حيث كان عادلا وقسم المال قبل وفاته بين زوجته وأولاده الثلاثة. ذهب سالم إلى طريقه، وكذلك سليم، وتركا أخاهم وأمهما.

وكان «جودر» مخلصا لأمه فجعلها تعيش معه وعمل في صيد السمك ثم تتوالى الأحداث ويدخل "جودر" في صراعات ومغامرات ساحرة ومثيرة.

وشخصية" جودر "هي نموذج للبطل الشعبي الملحمي الذي تدفعه الظروف للتصدي للشر ويتمكن من الانتصار عليه وتحقيق حلم الجموع الشعبية في مواجهة كل أدوات ذلك الشر المتعددة وهذا ما يلقى لدى المشاهد – العام – قبولا وربما تزايد هذا القبول والترحيب في العقود الأخيرة لدى المتلقي العربي ويعود هذا إلى أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية وبالقطع ثقافية.

حيث تسكن في العقل الجمعي رغبة دائمة في ظهور البطل المخلص ويظل الحلم بهذا البطل الذي يخرج من بين البسطاء ليحقق حلمهم في الخلاص من الظلم بمختلف أشكاله.

وهذا ما لفت إليه مؤلف المسلسل في لقاءات عديدة حيث أشار إلى حرصه على توضيح الفارق بين البطل الذي يجسد أعمال "أكشن" و"عنف جسدي" في الحارة الشعبية، وبين البطل الشعبي الذي يعتمد على تفاصيل شخصيته الداخلية وتاريخه، إذ يقول:" نعتمد في هذا العمل على فكرة البطل الشعبي المهموم بقضية إنسانية مهمة، إذ تدور أحداث العمل حول "جودر" وهو شخص يعمل في وقت من حياته في مهنة الصيد، ويتحول بعدها من صياد بسيط إلى أحد أغنياء الدولة".

وعرفت الحكايات الشعبية التراثية العربية هذا النموذج المخلص والمنقذ عبر تنويعات مختلفة فما بين "أبو زيد الهلالي سلامة" وبين "أدهم الشرقاوي" يختلط الواقعي بالأسطوري والحقيقي بالمتخيل ليصنعا معا سياقا دراميا إنسانيا ملهما ويرسخ لذلك الحلم الذي تتناقله الأجيال في انتظار البطل الذى يخرج من بين الناس ليحقق أحلام الناس...

ويجسد "ياسر جلال" في العمل شخصية كل من "شهريار" و"جودر"وقد نجح بشكل كبير في إتقان كليهما فلم يقع في فخ النمطية والتقليدية في تشخصيهما بل جاء الأداء سلسا عفويا وساعده على ذلك روح النص ذاتها التي تتسم بتلك المميزات.

ونجح المخرج "إسلام خيري" في توظيف كل الأدوات الفنية واختيار كافة عناصر العمل التي مكنته من الدخول بنا إلى هذا العالم السحري المشوق.

فقد جاءت موسيقى "هشام نزيه" شديدة الروعة ومعبرة عن روح العمل. وعلى الرغم من أن أجيالا عديدة متعاقبة  في وجدانها "موسيقى جمال سلامة" عندما تغنت سميرة سعيد من ألحانه وكلمات "عبد الوهاب محمد" أغنيتها الشهيرة "احكي يا شهرزاد" في عام 1984 إلا أن موسيقى "نزيه" جاءت متفردة وساهمت بقدر كبير في نجاح العمل.

وقاد المخرج أبطال العمل من الممثلين كي يخرجوا أفضل ما عندهم فقدمت "ياسمين رئيس" شخصية شهرزاد بعيدة تماما عن النماذج المُعلبة المحفوظة في الذاكرة كما جاء أداء القدير "عبد العزيز مخيون" في دور "عبد الله" مميزا خاصة في استخدام طبقات صوته وقدرته على التشكيل فيها كما أن بساطة وتلقائية "جيهان الشماشرجى" في دور "شروق" حبيبة جودر وزوجته وكذلك جاء أداء "أحمد بدير" لدور "عبد الأحد" ناضجا بقدر كبير.

كما أنه من أهم عوامل نجاح "جودر" ذلك المستوى الرفيع في الاستخدام المتقن لأعمال الجرافيك والتي كان لها دور كبير في صناعة حالة التحليق بالمشاهد في أجواء سحرية نحو عوالم الحكايات ويضاف إلى ذلك تميز الديكور الذي قدمه "مازن تجريده".

وحول النص الدرامى فنحن أمام تناول طازج وشديد الحرفية للحكايات فلم يغرق المؤلف في خطاب ماضوي من حيث لغة الحوار بل على العكس فقد غامر مغامرة كبيرة وقرر أن تكون لغة الحوار معاصرة ومعاصرة جدا حتى تكون الأسهل في الوصول للجمهور المستهدف الذي يشكل الشباب منه نسبة مؤثرة ولذلك فقد جاءت مفردات معاصرة جدا على لسان أبطال العمل.

لقد غامر الإنتاج بتقديم عمل بمواصفات "جودر" وتحمل صُناعه قلق المخاطرة بعد أن ظن الكثير من المشتغلين والمنشغلين بالدراما المصرية أن نموذج البطل الشعبي هو فقط ما يقدمه (محمد رمضان أو عمرو سعد أو أحمد السقا وأحمد العوضي وغيرهم) ذلك البطل الذي يقضى معظم حياته في الانتقام من هؤلاء الظالمين المتجبرين وفي سبيل ذلك الانتقام تسيل الدماء وتبقر البطون وتحرق المدن..

غامر صناع" جودر ببساطة الفكرة وعمقها وروعة النص وسحر الصورة والتأثير البصرى وسلاسة الأداء وبراعة الموسيقى وصدقها..

لكن الرهان الأكبر كان على وعي الجمهور وحاجة الملتقى إلى فن حقيقي يعبر عن أحلامه...