رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحشاشون.. يعبرون الزمان والمكان!

ينضم مسلسل (الحشاشين)، الذي أطلقته الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، خلال شهر رمضان المبارك، إلى الأعمال الإبداعية التي تُحذر من خطورة الاستغلال المنحرف للدين، الذي يمكن، حال ترجمته أو دبلجته بعدة لغات، أن يسهم في التوعية بخطورة الإرهاب المُتلحف بالدين على مستوى العالم كله، نظرًا للمستوى الراقي فنيًا الذي يقدمه المسلسل، والذي يمكن أن يجذب المشاهدين من ثقافات متنوعة.. وبينما يرى البعض أن المسلسل استهدف إجراء عملية إسقاط من الماضي على الحاضر، الذي اكتوت فيه مصر والعالم العربي بممارسات الجماعات الإرهابية، مثل الإخوان والقاعدة وداعش والجماعات الجهادية العنيفة، وذلك قد يكون صحيحًا، لكن في إطار حقيقة أكبر، وهي أن المسلسل ينبه إلى خطورة استغلال الدين والتفسيرات الخبيثة له، من جانب بعض الجماعات والشخصيات للتأثير على البسطاء، ودفعهم لارتكاب أعمال الاغتيال والتخريب، التي كما قادت إلى خراب العالم الإسلامي في الماضي، ولا تزال قادرة على تهديد الحاضر والمستقبل أيضًا، لأن الواقع الذي لا يمكن لأحد إنكاره، ليس في مصر والعالمين العربي والإسلامي وحدهما، أن استخدام الدين في الصراعات السياسية، يمكن أن يؤدي إلى هدم المجتمعات.

من يقرأ حوادث التاريخ وقصصه، يعجب كيف يعيد التاريخ نفسه بصور وأشكال تكاد تكون متطابقة.. في القرن الخامس الهجري، كانت جماعة (الحشاشين) تثير الرعب في المنطقة، من مصر إلى ضفاف بحر قزوين شمال إيران.. احترفت القتل والاغتيال لأهداف سياسية ودينية، وارتبط اسمهم بمهنة القتل، حتى دخلت كلمة (الحشاشين) القاموس الإنجليزي بمعنى القتل خلسة أو غدرًا، أو بمعنى القاتل المأجور.. شخصيات مهمة في ذلك العصر، منهم الخليفة العباسي الراشد، والمسترشد، والوزير السلجوقي، نظام المُلْك، تعرضوا للاغتيال على يد عناصر (الحشاشين).. كتب الكثير عن هذه الحركة وعن شيخها الغامض الخطير حسن بن الصبّاح في قلعته (ألموت)، الذي أطق الدعوة الإسماعلية في بلاد إيران، ثم بلاد الشام، بعدما أخذ العهد من الخليفة الفاطمي المستنصر، ليستمر في الولاء بعده لابنه نزار وليس المُستعلي، في انشقاقات معروفة.

السؤال هنا: هل انقرضت هذه الفرقة، وأصبحت مجرد طيف من الماضي، ونقشًا من التاريخ؟

الحقيقة أنه ومع اختلاف الثقافات، بقيت هذه الطريقة الحشاشية في العمل، لكن بصيغة جديدة.. ورث تنظيم داعش مبادئ حركة (الحشاشين)، فهناك شيخ لقلعة ألموت، وهناك شبان مُغيبون في دخان ووعود هذا الشيخ، وهناك قتلة ومغتالون وفتاكون، ينغمسون في وسط الخصوم، وهناك من يصرخ اليوم، قبيل تفجير نفسه، (خذها من الخليفة البغدادي)، كما كان القاتل الحشاشي من قبل يصرخ (من أجل سيدنا صاحب مفتاح الجنة).. التشابه بين (الحشاشين) من جهة و(داعش) من جهة أخرى، رغم التضاد المذهبي، مرده الطبيعة العنيفة للطرفين، والرغبة في النيل من الخصوم، وتوجيه ضربات استباقية تُحدث (خلخلة) لدى معسكر الطرف الآخر، كونهم يعلمون أن هنالك خللًا في ميزان القوة بينهم وبين الجهات والدول التي يواجهونها، ولذا يعمدون إلى اغتيال الشخصيات.. الاستراتيجية الأخرى التي تشترك فيها (داعش) مع (الحشاشين) هي (الانتحار)، وذلك بعد أن ينفذ المُجند عمليته، خوفًا من إلقاء القبض عليه من جهة، ومحاولًا عدم البوح بأسرار الحركة والتنظيم من جهة أخرى، وأملًا في (الفردوس المزعوم).. إضافة إلى ذلك، كانت كلتا الحركتين تعمدان لتنظيم عمليات بشكل علني، سواء في الأماكن العامة، أو تحت مرأى الناس، لإحداث حالة من القلق والخوف في النفوس، محاولة أن تلعب على الوتر النفسي.

إلا أن ما تجتمع عليه كل هذه الجماعات الإرهابية، هو الخلل في فهم القرآن الكريم، والاستدلال المغلوط بآياته، كما روى البخاري أثر ابن عمر، رضي الله عنه، أن من سمات منهج الخوارج هو التخبط في فهم القرآن، والاندفاع بتلك الأفهام المنحرفة إلى ترويع الناس وإراقة الدماء، فقد ورد في صحيح البخاري، أن ابن عمر، رضي الله عنه، كان يقول: (انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين)، وعن حذيفة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ ما أَتَخَوف عليكم رجل قَرأ القرآن، حتى إذا رُئِيَت بَهجته عليه وكان ردءًا للإسلام، غَيَّرَه إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسَعَى على جَارِه بالسيف ورماه بالشرك.. قلت يا نَبِيَّ الله أيُّهُما أَولَى بالشرك: المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي) رواه ابن حبان في صحيحه.. كذلك الخطأ في فهم الحديث النبوي، إذ إن الجماعات الإرهابية ترتكب جرائم مُنكرة في حق الحديث النبوي كذلك، إذ ينطلقون إلى كلمات من الهدي النبوي الشريف، فينتزعون الكلام النبوي من سياقه، ويحملونه على أسوأ المعاني والمحامل، ويخلعون عليه ما وقر في نفوسهم من غلظة وعنف وشراسة وانفعال، مع جهل كبير بأدوات الفهم، وآداب الاستنباط، ومقاصد الشرع الشريف وقواعده، فإذا بالكلمة المنيرة من كلام النبوة، التي تملأ النفوس سكينة ورحمة وإجلالًا لهذا الدين، وشهودًا لكماله، قد تحولت على أيديهم إلى معنى دموي قبيح، مُشوَّهٍ، يملأ النفوس نفورًا ورعبًا.. هذه الجماعات الإرهابية تتفق فيما بينها على اجتماع الجهل بدين الله، والجرأة على تكفير المسلمين واستباحة دمائهم، وظلم عباد الله، في حين أنها لا ترفع سيفًا ولا تطلق رصاصة في وجه أعداء الأمة الحقيقيين، ما يدعو إلى القول بأن تلك الجماعات ما هي إلا أداة في يد أعداء الأمة، يستخدمونها في توجيه سهامهم إلى قلب هذه الأمة.

في كتاب برنارد لويس عن حكاية الحشاشين، التي منها جاءت كلمة ASSASSIN باللغات الأجنبية، ومعناها: الحشاش، أو القاتل بدافع التعصب الأعمى، يقول إن ولادة حسن بن الصبّاح كانت مجهولة، ولكنه توفي سنة 1124.. وقد نقل مشروعه الى القاهرة، عاصمة الخلافة الفاطمية.. وكان في طموحه غير المحدود يسعى الى زعزعة النظام السُنّي، بابتداعه الإرهاب السياسي، استجابة لدعوة تنزع الى بلوغ الجنة.. وكان هدفه تسريع عودة الإمام المحجوب ليعلن (القيامة)، حيث تبطل الشريعة، وتفتح الطريق أمام حياة تنتهك المحرمات.. وهكذا أُعلن زوال زمن الشريعة، على أيدي أتباع حسن الصبّاح الذين عاشوا معه في قلعة ألموت بالقرب من بحر قزوين.. وبعكس ما يفعله حشاشو داعش، فإن حشاشي الصبّاح لم يفتعلوا مجازر عمياء، ولم يوقعوا ضحايا أبرياء.. كما أنهم لم يستهدفوا الأجانب، باستثناء إقدامهم على إعدام الماركيز كونراد، ملك القدس، بأمر من (شيخ الجبل) الذي كان الصبّاح قد عيّنه لقيادة الفرع السوري. وقد أقام في قلعة مصياف.. وقيل في حينه إن ذلك الإعدام لم يكن مجانيًا، وإنما الغرض منه إثارة الانشقاق في صفوف الفرنجة.. وهذا ما حدث فعلًا، إذ اتهم ريكاردوس قلب الأسد بأنه المحرِّض على عملية الاغتيال.. ومن هنا، يذهب البعض إلى القول بأن عملية إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة وتصوير عملية الإحراق، لم تكن وليدة موقف ثأري مُرتَجَل، وإنما كانت خطة مدبرة بهدف إحراج النظام الأردني، وإعطاء المعارضة المبرر السياسي لإثارة الفوضى والعصيان.

وأيًا ما كانت الرؤية والدور السياسي والديني الذي لعبه الحشاشون في التاريخ الإسلامي، على مدار ثلاثة قرون في الشام، فإن الثابت هو أن نجاحهم أو فشلهم هناك ارتبط بشكل أو بآخر بمصر، ويبدو أن مصر كان لها دورها المؤثر على سلوك ومستقبل هذا التنظيم.. فعلى الرغم من أن بداية الحشاشين جاءت في شمال بلاد فارس، فإن هذه الحركة ارتبطت بحبل سُري واضح مع القاهرة، فلقد كانت تحكم مصر آنذاك الدولة الفاطمية وكانت إسماعيلية المذهب، وكانت على اتصال مباشر وواضح بمؤسس الفرقة حسن بن الصبّاح، على الرغم من بُعد المسافة بينهما، وكان الأخير يتبعها أيديولوجيا، بل إنه عاش في مصر فترة من الزمن قبل عودته إلى فارس، وهذا في حد ذاته منح هذا التنظيم قوة ودلالة سياسية مهمة، فضلًا عن غطاء شرعي قوي للغاية في ذلك الوقت، لارتباطهم بأقوى دولة إسلامية آنذاك.. وقد وقع الانشقاق الأيديولوجي بين القاهرة وقلعة الموت في شمال فارس، في نهاية القرن الحادي عشر، بسبب إصرار الأخيرة على الاعتراف بإمامة ابن الخليفة المتوفى نزار، وإصرارهم على توليته بدلًا من أخيه ودعمهم لسلالته.. كان ذلك عندما اشتد عود الحركة وأصبحت قادرة على الاستقلال الأيديولوجي قبل السياسي، وهو ما أدخلها في صراع فكري أدى لاغتيال الحشاشين قائد الجيوش الفاطمية، الذي ناصبهم العداء وصفى جيوبهم ومريديهم في القاهرة.. وعلى الرغم من مناصبة العداء للخلافة الفاطمية في مصر، خصوصًا بعد بداية ضعف هذه الخلافة، فإن وجود دولة شيعية ـ إسماعيلية في مصر كان له أثره في منح هذه الطائفة زخمًا كبيرًا حتى مع الفوارق السياسية التي بدأت تظهر.. وتمثل فكرة شرعنة القتل باسم الدين، أخطر الأفكار التي تتفق عليها الجماعات المتطرفة بشكل عام، وفي مقدمتها جماعة الإخوان التي تضع أُطرًا شرعية للعنف تحت غطاء شعارات دينية زائفة، تتشابه حد التطابق مع منهج زعيم الحشاشين حسن بن الصبًاح.

■■ ويبقى القول..
إن ما قامت به الشركة المتحدة، من خلال إنتاج هذا العمل الفني الضخم، يمثل خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، ليس فقط من أجل دعم القوة الناعمة المصرية بشكل عام، أو التوعية بخطورة الجماعات الدينية التي تنتهج العنف، ولكن أيضًا من أجل وضع الدراما التاريخية المصرية في المكان الذي تستحقه، خصوصًا في ظل محاولات عدة من جانب صانعي الدراما التاريخية في دول أخرى في الإقليم، تقديم صورة مشوهة لتاريخ المنطقة، وما تعرضت له من نهب وتدمير لمعظم الحضارات والثقافات التي عرفها العالم العربي، لمصلحة المشروعات الإقليمية لهذه الدول، وكجزء من جهودها المخططة لإظهار قوتها الناعمة وتحقيق أطماعها في المنطقة العربية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.