رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وداع حازم المستكاوى صديقى النحات

فقدت الحركة الفنية قبل أيام واحدًا من أجمل الفنانين التشكيليين المصريين قبل أن يتم الستين من عمره، الفنان النحات حازم المستكاوى من أكثر مَن عرفناهم جدية ودأبًا وإحساسًا بالمسئولية، نادرًا ما كان يتحدث فى موضوعات بعيدة عن الفن ومكانة الفنان، يمثل حلقة مهمة بين أجيال النحت المعاصر فى مصر.

فى بدايات القرن العشرين فجّر النحات العظيم محمود مختار، صاحب نهضة مصر، ينابيع النحت المصرى المعاصر بمحاولاته الخلاقة لصياغة مفهوم فنى، باعتماده على القواعد الراسخة والثابتة للنحت المصرى القديم، الذى علمته أم الدنيا للعالم، وبفضل هذا الاستيعاب للحضارات السابقة واجه «مختار» موقفًا من أخطر المواقف تاريخيًا، وهو إيجاد الوصل التاريخى بين حضارتين من أکبر الحضارات، الفرعونية وحضارة القرن العشرين بکل ثقلها ومحاورها المتعددة وغرابتها عن المفاهيم والمدارك العاديـة للفنان صاحب الموروثـات التقليديـة، وواصلت الأجيال التالية تجلياتها، ونبغ جمال السجينى وآدم حنين وعبدالبديع عبدالحى وعبدالهادى الوشاحى وعشرات غيرهم فى رسم خريطة معاصرة تليق بأحفاد الفراعنة، حازم يمثل جيلًا أحدث، يعرف منزلة أساتذته وأهمية منجزهم، وفى الوقت نفسه احتك بما ينتجه الغرب من فنون من خلال سفرياته وإقامته فى أوروبا فترة ليست قليلة. حازم قبل الحديث عن تجربته هو واحد من أعز الأصدقاء، تبتهج حين تلقاه وتبتهج أكثر حين يأخذكما الحديث فى شئون الدنيا، وربما اختلفت معه حول مسألة ما، فنية أو سياسية أو رياضية، ولكن ينتهى الخلاف بمزيد من الضحك، فهو على سبيل المثال لم يكن محبًا لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، الذى أعتقد أنه موهبة استثنائية على كل المستويات، وأيضًا كان منحازًا لرياضة كرة اليد «التى مارسها» أكثر من كرة القدم التى انحاز إليها بسبب ما فيها من شعر وموسيقى ودراما، ولم يُغضب أحدنا الآخر، وكنت أشعر تجاهه دائمًا بصلة قُربى، ابتسامته صادقة ومرحبة وودودة، ربما لأنه لم يعانِ من أمراض عدم التحقق التى أصيب بها كثيرون فكانت النتيجة هى «التخبيط فى الحلل»، مارس النحت التقليدى بأفكاره وأشكاله وخاماته التقليدية من حجر وخشب ومعادن، وجميعها خامات ثقيلة الوزن وغير طيّعة بما يكفى لصلابتها، ما دفعه إلى البحث عن خامة طبيعية وطيّعة وقابلة للتشكيل وخفيفة الوزن، ومن خلال التجريب والبحث وصل إلى الكرتون والورق المقوى والأوراق المدارة التى تحتاج إلى تقنية بنائية معقدة بعض الشىء وإلى وقت طويل للإنتاج، ولكنها تحقق له ما يصبو إليه فى إخراج عمل فنى متماسك وقوى التركيب وخفيف الوزن وقابل للفك والتركيب والشحن. تعتمد أعماله على العلاقة أو المساحة الكائنة بين الفن والعمارة والتصميم، فلكل منها أبجدية ولغة ولكن ثمة قواسم مشتركة أو مساحات تلاقٍ بينها، وعملية صياغة لغة بصرية خاصة به دفعته إلى البحث التاريخى فى الفنون والثقافات الإنسانية التى أبدعت وأنتجت فنونًا تعاملت أو تناولت مثل هذه الأفكار واللغات الهندسية، بداية من المصرى القديم وتصميماته والتكرارية كمذهب بصرى ومفاهيمى، مرورًا بالفنون الهندسية الإسلامية حتى الفن الحديث والمعاصر. سُئل ذات مرة عن سبب اختياره النحت كمجال إبداعى للتعبير، أجاب: «كان التشكيل المجسم بالطين الأسوانى أو بالصلصال أو بخامات أخرى المفضل بالنسبة إلى، كذلك ألعابى المفضلة طفلًا كانت (الميكانو) و(الليغو) و(المكعبات) التى ألاحظ تأثيرها فى أعمالى الفنية»، تخرّج حازم فى كلية التربية الفنية بجامعة المنيا، وهناك اكتشف أن المجسمات هى الأقرب والأكثر رحابة فى التعبير عن أفكاره، فكان اختياره التخصص فى النحت مع التصميم، كان يرى أنه توجد أزمة فى علاقة المتلقى بالفنون البصرية عند العرب منذ زمن بعيد، إذ تعتمد الثقافة العربية على اللغة وتتبنى الشفاهية كوسيط للتعبير، ولا تدرك تلك الثقافة أبجديات اللغة البصرية، ومنذ إنشاء مدارس وكليات الفنون فى أوائل القرن العشرين على أيدى الفرنسيين والطبقات الأرستقراطية تم صك تعبيرات ومصطلحات تحصر الفنون البصرية فى مناطق الزينة والديكور، ما يمثِّل أزمة حقيقية فى استقبال المتلقى للفنون المعاصرة، والتى هى بالنسبة إليه غير تقليدية وغير تزيينية! وهذا الأمر لن يتغير أو يتطور إلا من خلال تعديل وتحديث نظم التعليم فى المدارس وكليات الفنون، وبالطبع لا بد من هزيمة الخيال السلفى الذى يرى التماثيل أصنامًا، ولن ننسى كيف غطى هؤلاء عددًا من التماثيل بمباركة جماعة الإخوان الإرهابية فى السنة الكئيبة التى حكموا فيها مصر... مهد الفنون والذوق والرقة والإنسانية، ألف رحمة ونور على روحك يا حازم الحبيب.