رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تنشيط الذاكرة بين الكبار

البحث فى المجلات والصحف القديمة متعة لا مثيل لها، خصوصًا للذين لا يبحثون عن موضوعات تعجب الجمهور العام الذى تستهويه الحكايات القديمة، قليلون «وعلى رأسهم الأستاذ صلاح عيسى رحمة الله عليه» هم الذين رفعوا بحسهم الفنى الرفيع من شأن الأرشيف.

أحيانًا أجدنى غارقًا فى مطالعة نسخة، كما حدث قبل يومين مع عدد من مجلة «الإذاعة والتليفزيون» اشتريته، صدر سنة ١٩٦٤، وفيه حوار جميل مع كبيرنا طه حسين، الحوار يشير إلى أسئلة عصر كامل حول العامية والفصحى، حول الآراء المرتبطة بالمذاهب الفلسفية، وأخطر ما فى الحوار من وجهة نظرى هو أن الأزمة التى نعانى منها حاليًا، وهى عدم اهتمام معظم الصحافة بالأدب، يقول العميد: «عندما كانت الصحافة تلتقى بالأدب.. فقد أفادته كل الفائدة، وأذكر أننى كنت أكتب فى الصحف وبنوع خاص فى جريدة السياسة، وقد اختفت السياسة منذ وقت طويل وتوفى كل أصحابها.. وحديث الأربعاء ما زال ينشر وتتجدد طبعاته.. وغیری، كتب العقاد، رحمه الله، مقالات أدبية تحت عنوان (ساعات بين الكتب) تناول فيها بالدراسة تاريخ الأدب والنقد، وما كتبه العقاد ما زال يُقرأ حتى اليوم، رغم أن الصحف التى كانت تنشر هذه المقالات اختفت منذ فترة بعيدة. وأذكر أن الكتابات الأدبية فى جريدة (السياسة) كانت تروج هذه الجريدة، مع أن سعد زغلول، رحمه الله، كثيرًا ما نهى الناس عن قراءة هذه الصحيفة، وقال إنى أقرأ (السياسة) نيابة عنكم.. فلم يخضع الناس لهذا النهى، وإنما أقبلوا عليها إقبالًا شديدًا، لأنها كانت تعنى بالأدب العربى القديم والحديث».

صاحب «الأيام» كان لا يعتبر الكتابة بالعامية أدبًا، ولكنها مجرد كلام، وحين قال له المحاور إن مسرحية «شهرزاد» لتوفيق الحكيم كتبت بالفصحى وانصرف عنها الشعب رغم فصاحتها، فى الوقت الذى نجحت فيه «مذكرات طالب بعثة» للويس عوض رغم كتابتها بالعامية- قال له إن انصراف الجمهور عن عمل الحكيم ليس بسبب الفصحى ولكن لأنها لم تُفهم ولا تُقرأ ولا تُشاهد، وأكد أن الحكيم قرأها عليه قبل نشرها فى كتاب ولم يرد على استفساراته عن بعض الجمل الملتبسة، وأنه كتب عنها بعد صدورها وهاجمها ونصح كاتبها بالقراءة فى الفلسفة، فأرسل له الحكيم خطابًا كله سب وشتائم.. وتحدث عن نجيب محفوظ، معتبرًا أن نجاحه سببه «إنه تلميذ من تلامذة قسم الفلسفة بكلية الآداب، ومنهجه هو منهج الجيل الماضى نفسه. ولهذا تجد أن لديه خيالًا خصبًا استطاع به أن يكون متفردًا ومتفوقًا».

تذكرت ما كتبه صاحب «الحرافيش» عن صاحب «الفتنة الكبرى»، سيرة الكبار تنشط الذاكرة، بعد الثورة وإنشاء «نادى القصة» دعاه المرحوم يوسف السباعى بعد أن اختاره رئيس شرف للنادى، وقدَّمنا جميعًا له، فسلّمتُ على «طه» وبدأت معرفتى به، ولم يكن قد قرأ لى شيئًا أبدًا، ولكن المرحوم «أنور المعداوى»، الناقد المعروف، قال له: أنت كتبتَ عن يوسف السباعى، وأمين يوسف غراب، وغيرهما ممّن قرأت لهم، فاقرأْ لنجيب محفوظ، فقبِلها طه حسين، كنوع من الإحراج، فالرجلُ لديه قراءاته ومسئولياته، وقد كنتُ أُهديه رواياتى كما أهديها لكبار أساتذتى ممّن تتلمذتُ عليهم وأحببتُهم وتأثرتُ بهم، وربما يكون طه حسين لم يهتم برواياتى فى البداية، ربما لأنه لم يكن يعرفنى، ومن غير المعقول أن يقرأ طه حسين كل رواية جديدة تأتى إليه، فلما تعرفتُ عليه فى نادى القصة وقدمنى له «المعداوى» ورجاه أن يقرأَ لى، كان من حسن حظى أنه كان راضيًا عمّا كتبتُ، فقد قرأ لى أول ما قرأ «زقاق المدق» وكتب عنها مقالًا رائعًا، ثم كتب مقالًا آخر لا يُنسى عن «بين القصرين»، فقد عرض للرواية الأولى وقام بتحليلها وقال: إنها رواية تصل لمستوى الأدب العالمى، وكتب عن الرواية الثانية مشيدًا بما هو أكثر من ذلك، ثم حدث اتصال بيننا، ودعانى لمقابلته فى بيته، فكنتُ أتردد عليه أحيانًا، أذهبُ إليه وحدى، وأحيانًا أذهبُ بصحبة ثروت أباظة، وفى هذه اللقاءات كان يدور حديث فى الأدب وفى السياسة، وكان يتبسّط معنا، ولكن شخصيته كانت تفرض الأستاذية التى ربما لم يكن يحب أن يظهرها كى لا يضايق الناس بها، ولكنه رغم تبسطه معنا فإننا كنّا نشعر بأستاذيته وهو يتحدث إلينا، لقد كان رجلًا عظيمًا مُضيئًا فى شخصيته وفى إبداعاته ككاتب متعدد المواهب، وفى ترجمته لأدب الإغريق، ومؤلفاته الأدبية والعلمية، فمَن ذا الذى يستطيع أن يجمع بين الفن والعلم ويجيد فيهما كما فعل طه حسين إلا أن يكون رجلًا عظيمًا.