رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دراسة عسكرية تكشف: حرب العاشر من رمضان.. أعظم خطة استراتيجية لتنفيذ عملية عبور مانع مائى وتدمير خط بارليف

حرب العاشر من رمضان
حرب العاشر من رمضان

فى شهر رمضان هذا العام، تتقارب ذكرى عدة مناسبات وطنية، حيث يتواكب يوما التاسع والعاشر من الشهر الكريم، مع يومى ١٩ و٢٠ مارس الجارى، حيث يتوافق الأول مع ذكرى إتمام تحرير طابا، والثانى مع بدء نصر أكتوبر ١٩٧٣.

ويحتضن التاريخان سيناء الحبيبة من أقصاها إلى أقصاها، حيث بدأت حرب التحرير من أقصاها غربًا، باقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف، حتى نهاية المعركة القانونية لتحرير آخر حفنة رمال من أرض الفيروز فى أقصاها شرقًا، وفيما بينهما كان نضالًا شاقًا من أجل تحقيق السلام، الذى بنى على نصر رمضان/ أكتوبر المجيد.

واكب المناخ العسكرى القتالى لحرب رمضان/ أكتوبر، مناخ روحانى رمضانى، حيث أصدر الفريق سعدالدين الشاذلى، رئيس أركان القوات المسلحة وقت الحرب، توجيهًا للجهات المعنية، بابتكار بديل جديد لـ«صيحة النصر»، وفى نفس وقت إصدار التكليف، كان المؤذن يرفع الأذان لصلاة العصر، فى مقر قيادة الجيش الثالث الميدانى، فتم التيمن بصيحة «الله أكبر» واعتمادها رسميًا.

وشهدت حرب أكتوبر أعلى درجات الدقة فى التخطيط العسكرى، وهو ما أسهم فى نجاح عملية العبور بشكل غير مسبوق، فضلًا عن نجاح جميع المهمات العسكرية التى تم التخطيط لها وتنفيذها خلال الحرب.

فى هذه الدراسة، نستعرض عملية الإعداد الشامل والتخطيط الدقيق، والخداع الاستراتيجى والتنفيذ الشجاع، وكذلك النتائج والدروس المستفادة، مرورًا بعملية الانتصار السياسى بتحرير طابا والانتصار القانونى بتحرير كامل التراب الوطنى.

 

إعادة بناء الفرد المقاتل وتوفير التسليح والمعدات اللازمة للعبور وتدمير الساتر الترابى

بدأت مرحلة الإعداد الشامل مع انتهاء نكسة ٦٧ مباشرة، ورفض الشعب المصرى لها، وتنحى الرئيس جمال عبدالناصر عن موقعه، ورفض هزيمة جيشه فى حرب غير متكافئة لم يخضها، ورفع الشعب والجيش شعارى تلك المرحلة «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة» و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، بما يعنى أن حرب التحرير قادمة لا محالة، وأن الإعداد لها له الأسبقية المطلقة.

وتضمنت هذه المرحلة الإعداد التسليحى والقوة البشرية المقاتلة، وكان أولها تعويض خسائر حرب عام ٦٧، خاصة من الطائرات والدبابات والدفاع الجوى، ثم زيادة دعم تلك القوات تباعًا، طبقًا لما سمح به الاتحاد السوفيتى، كما تم الإعداد للقوى البشرية تحت السلاح العاملة والاحتياطية، مع زيادة نسبة المجندين من حملة المؤهلات العليا، لتطوير التعامل مع الأسلحة والمعدات الحديثة. 

كما تضمنت المرحلة إعداد مسرح العمليات، ومنها إعداد الطرق والسكك الحديدية والموانئ البحرية والجوية، وإعداد مناطق وخطوط دفع الاحتياطيات، وكذلك إعداد المناطق الإدارية وإعداد خطة «خدمة القائد»، لتفى باحتياجات السيطرة والتحركات التكتيكية المنضبطة، لمئات الآلاف من القوات وعشرات الآلاف من المركبات المختلفة، ومئات الدبابات عبر الطرق ومحاور التقدم، مع عبور كبارى الاقتحام المتنوعة قناة السويس والمعديات المختلفة نهارًا وليلًا، مع السيطرة بالتوقيتات والخطوط.

وتعتبر تلك الخطة من أكبر وأدق الخطط النوعية العالمية، خلال مراحل الحرب، وخاصة مراحل الإعداد والعبور لقناة السويس، كأكبر وأصعب مانع مائى فى التاريخ حتى الآن.

والجانب الثانى فى دراستنا هو التخطيط الدقيق، وشمل كل التفاصيل التكتيكية والفنية، ودراسة جميع المصاعب والعوائق المنتظرة، والتغلب عليها وحلها بدقة وهدوء، دون أن تشعر قوات العدو.

وتزامن العديد من تلك الإجراءات مع خطة الخداع الاستراتيجى، التى تم تنفيذها بمهارة، مثل التغلب على أنابيب النابالم، وتدبير مضخات مياه فتح السواتر الترابية، بأعداد كبيرة من بريطانيا وألمانيا، دون أن يشعر أحد، وتدرب الأفراد على تسلق الساتر، بارتفاع متوسط ٢٠ مترًا، بمعداتهم وأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة.

وتم التنسيق الدقيق مع هيئة قناة السويس، لاستخدام إمكاناتها فى إعداد وتجهيز منازل ومصاعد للكبارى والمعديات وتوفير بعض قوارب العبور.

تنفيذ أكبر خطة خداع استراتيجى فى العالم ضللت استخبارات العدو والدول المتحالفة معه

نفذت مصر خطة خداع استراتيجى كانت مفتاح النصر، وتم من خلالها تحقيق المفاجأة الكاملة لإسرائيل بل والولايات المتحدة، بكل إمكانات استخباراتهما، وكانت خطة شاملة تمت على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومحصلتها المهمة هى خداع العدو عن وقت بدء الحرب، ما أفقده عنصرى المبادأة والمفاجأة، والنتيجة هى شلل وإرباك خطة تعبئة قوات الاحتياط الإسرائيلية المهمة، التى تشكل حوالى ٦٠-٧٠٪ من إجمالى القوات الإسرائيلية، التى يجب أن يتم استدعاؤها خلال ٧٢ ساعة، أى٣ أيام.

وعلى المستوى السياسى، جرى إرسال ممثل للرئيس السادات إلى الولايات المتحدة للتباحث بناءً على طلبها، حيث تم التنسيق مساء يوم ٥ أكتوبر بين نائب كيسنجر والسفير المصرى فى واشنطن أشرف غربال، وقبل أن يعود السفير فى التاسعة صباح اليوم التالى ٦ أكتوبر بتوقيت واشنطن، الثالثة ظهرًا بتوقيت القاهرة، كانت الحرب قد بدأت بالفعل.

كما تم قبول زيارة وزير الدفاع الرومانى لمصر فى ٨ أكتوبر، وتم ذلك بناءً على طلبه فى أول أكتوبر، وإرسال برنامج مقترح للزيارة للإعلام، وفى يوم الحرب ٦ أكتوبر، تم الاعتذار عن الزيارة وتفهم الموقف، وكان الوزير يحمل مقترحات للوساطة بين مصر وإسرائيل بواسطة الرئيس شاوشيسكو.

وحدث الاجتماع السرى لمجلسى الدفاع الوطنى لمصر وسوريا فى الإسكندرية، واستهدف التنسيق النهائى، وعقد فى قيادة القوات البحرية فى رأس التين برئاسة الرئيسين، فى ٢٢ و٢٣ أغسطس ١٩٧٣.

على المستوى الاقتصادى، تم تأخير إغلاق المجال الجوى فوق مصر فى آخر لحظة، بما يسمح للطيران الدولى بتغيير مساراته إلى مسارات بديلة قبل الدخول إلى الأجواء المصرية كمنطقة حرب، وتم تأخير إطفاء شعلات حقول الغاز فى خليج السويس والبحر الاحمر، لآخر لحظة، حتى لا تكون قرينة فى حالة الإطفاء الجماعى المتزامن والمبكر.

وجرى استيراد ماكينات ضخ مياه لفتح السواتر الرملية، من بريطانيا ثم من ألمانيا، تحت ستار مشروعات زراعية، فى وزارتى الزراعة والرى.

وعلى المستوى الإعلامى والاجتماعى، أسهم الإعلام مساهمة فعالة، بالتنسيق مع إعلام القوات المسلحة، بالتركيز على المراد توصيله إلى العدو، مثل إعلانات الحج والعمرة فى بداية رمضان للضباط والمتطوعين وأسرهم، والتركيز على نشر تلك الأخبار فى الصحف التى تحصل عليها السفارات الإسرائيلية فى أوروبا وخاصة لندن وباريس.

وكان النشاط الاجتماعى، لا تخطئه العين المتابِعة، خاصة فى الفرحة الأسرية بعودة أبنائها من التعبئة، فى الظروف المتوترة منذ سبتمبر ٧٣ مع الاستدعاء التدريبى السنوى، لمناورات الخريف من سلسلة «تحرير».

وشمل المستوى العسكرى العديد من الأنشطة، نذكر منها تكرار أعمال التعبئة والتسريح، والتدريب على العبور خارج مراقبة العدو، وتحريك الكبارى إلى منطقة القناة، وكانت من أصعب المراحل نظرًا لضخامتها، وتم نقلها بعد تفكيكها ليلًا وإخفائها، مع إعادة بعض الأجزاء المجمعة نهارًا للرصد وهكذا، مع إنشاء الكبارى الخفيفة والهيكلية، والتخطيط للهجوم على طول مواجهة قناة السويس ظهرًا، بمواجهة حوالى ١٧٠ كم بما فيها عيون موسى، وبقوات النسق الأول المحتل لغرب القناة مباشرة.

وكانت محصلة التخطيط والتنفيذ للمفاجأة الاستراتيجية أن نجحت الخطة نجاحًا كبيرًا وخدعت المستوى السياسى والعسكرى الإسرائيلى والعالمى، بما فيه الولايات المتحدة، بل والاتحاد السوفيتى أيضًا، وتعتبر أكبر مفاجأة استراتيجية عالمية يصعب تكرارها، نظرًا للتقدم التكنولوجى فى مجالات الاتصالات والتنصت والأقمار الصناعية. ولكن تبقى المفاجأة التكتيكية واردة، بفكرة جديدة أو سلاح جديد.

ورابع جوانب الدراسة التنفيذ الشجاع، فقد كانت الدوافع الوطنية والقتالية والروحية قوية للغاية، كما كان لنجاح المفاجأة وتأخر وارتباك خطة التعبئة الإسرائيلية خلال الثلاثة أيام الأولى من الحرب، أثر كبير على مقدمات النجاح والنصر المرتقب.

وكان وقت التعبئة هو ذات الوقت الحرج الذى احتاجته القوات المسلحة المصرية لتنفيذ المراحل الأولى، وتحقيق المهام الصعبة، مثل الفتح الاستراتيجى واقتحام قناة السويس، وبدء القتال الضارى لتدمير خط بارليف الحصين، وقتال الاحتياطات المدرعة الإسرائيلية القريبة بالقوات المصرية الخفيفة، من المشاة والمظلات والصاعقة منفردة قبل فتح الساتر الترابى، وتركيب الكبارى وعبور الدبابات المصرية، مع بدء اليوم الثانى للقتال، فى السابع من أكتوبر. 

كما شهدت مرحلة التنفيذ الشجاع العديد من البطولات نذكر منها، تدمير النقاط الحصينة لخط بارليف المنيع، تباعًا، ورفع الأعلام المصرية عليها، تحرير مدينة القنطرة شرق، واستسلام مواقع إسرائيلية فى القنطرة ولسان بور توفيق، والاستيلاء على مركز قيادة تبة الشجرة شرق الإسماعيلية، ومواقع المدفعية الثقيلة ١٥٥ مم فى عيون موسى أو «أبوجاموس» كما سماها الجنود، وتغلغل قوات اللواء البرمائى فى أعماق تمادا بسيناء، قبل الارتداد نظرًا لعدم وجود دفاع جوى مصرى متحرك «مميكن». ونجحت الضربة الجوية الافتتاحية، وتمت عرقلة وصول القوات الجوية الإسرائيلية المتفوقة إلى قناة السويس، بتوجيه قيادتهم لهم بالابتعاد عن «غابة الصواريخ» المصرية، كما تم إغلاق باب المندب فى وجه الملاحة الإسرائيلية لقرابة ٤ أشهر. 

انتصار قانونى باستخدام الوسائل المساحية والطبوغرافية والجغرافية لتحرير طابا

كان الانتصار القانونى فى طابا هو الانتصار الثالث فى مثلث الانتصارات العسكرية والسياسية، واستغرق بضع سنوات من التحدى والصراع، خلال التحكيم الدولى، واستخدمت فيه الوسائل المصرية القانونية والتاريخية والعسكرية والمساحية والطبوغرافية والجغرافية، والوثائقية، لنصل فى النهاية إلى أن طابا مصرية، ورغم محدودية تلك البقعة من الأرض، أصر الرئيس السادات ومن خلفه على تحرير تراب الوطن المقدس الذى لا يَقبل المساومة.

وبعد خمسة عقود من الانتصار، تهل علينا نسمات ذكرى العاشر من رمضان- السادس من أكتوبر المجيد، لتكتمل ذكرى ثلاثية الانتصارات العسكرية والسياسية والقانونية، والتى حققتها عزيمة الشعب والجيش المصرى، ولم يكن أى منهم سهلًا، فالنصر العسكرى احتاج إلى إعلاء العقيدة القتالية والروحية، والنصر السياسى احتاج إلى المثابرة، والنصر القانونى احتاج إلى الحُجة، ونجحت مصر فى كل تلك التحديات، التى تقود إلى إعلاء كلمة الوطن ودعم أمنه القومى الشامل.

اللواء أ.ح دكتور محمد قشقوش مستشار الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية