رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن (6).. جريمة سيد قطب الحقيقية فى حق القرآن

جريدة الدستور

من أداءات المفسرين التى أثارت جدلًا كبيرًا وجرّت على الإسلام أضرارًا كبيرة، أنهم كانوا يوظفون بعض آيات القرآن الكريم لتحقيق أهداف بعينها، فهم بجرأة شديدة يخرجون الآيات من سياقها ويضعونها فى سياقات مختلفة، وهو ما أحدث لبسًا فى تفسير آيات القرآن، وهو ما فتح مساحة نقاش بينى وبين الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر. 

■ الباز: اسمح لى أن نفتح قضية جديدة أعتقد أنها مهمة وخطيرة، فبعض المفسرين يتجاوز فى حق «الحق» باقتطاع آيات وإدخالها فى سياقات أخرى، وهو ما يجعلنا أمام تزييف لمقاصد القرآن، كيف ترى هذه القضية؟ 

- أبوعاصى: ما تتحدث عنه من الأخطاء الجسيمة فى تفسير القرآن الكريم، وأعطى ذلك سلاحًا لبعض المتشددين والمتطرفين، فاجتزاء النص من سياقه ووضعه فى غير موضعه يعتبر جريمة فى حق القرآن. 

فأنت، مثلًا، تجد بعض المفسرين والتيار السلفى يعتبرون الغناء حرامًا كله، وأنا هنا لا أتحدث عن حكم الغناء، لأن هذا حكم فقهى، ولكنى أتحدث عن تفسير آية «ومن الناس من يشترى لهو الحديث»، ستجد بعض المفسرين يقولون إن لهو الحديث هو الغناء، ولا يكملون الآية التى تقول «ليضل عن سبيل الله».

ولو فرضنا أن لهو الحديث هو الغناء، فكيف يكون الغناء يضل عن سبيل الله، تجد بعض المحققين من المفسرين يقول لك ليس الغناء فقط، ولكن أى شىء تتخذه ليضل عن سبيل الله يكون حرامًا، وبذلك فالأمر لا يكون محصورًا فى الغناء. 

ما حدث هنا أنه تم توظيف النص فى غير بابه، فبعض الدعاة يقولون إن الغناء حرام وإن لديهم دليلًا من القرآن وهو آية لهو الحديث، ولو أكمل هؤلاء الآية لعرفوا أن لهو الحديث الذى يضل عن سبيل الله أكبر من أن يكون الغناء، فكل ما يحجبك أو يبعدك عن الله سبحانه وتعالى ويبعدك عن الطريق المستقيم، سواء كان غناءً أو غير غناء يكون حرامًا، لكن الآية ليست خاصة بالغناء. 

■ الباز: لهو الحديث فى سياق الآية يمكن أن يكون مظلة لأشكال كثيرة من الحديث.. أليس كذلك؟ 

- أبوعاصى: هذا بالطبع، ولا بد أن يكون مفهومًا، ولو جئنا للجهاد مثلًا، سنجد القرآن يقول «وجاهدهم به جهادًا كبيرًا»، والآية فى سورة الفرقان، وهى مكية، فيأتى من يوظفها فى غير بابها، فيقول لك إن الجهاد هو القتال، دون أن يلتفت إلى أن القتال لم يشرع فى مكة، بل شرع فى المدينة للحفاظ على الدولة.

فالجهاد القتالى لم يفرض فى مكة، ولذلك فهو ليس لإكراه الناس على الدخول فى الدين، ولكن فرض فى المدينة للحفاظ على الدولة التى أصبحت مكونة من أرض وشعب ودستور. 

وقد فرض الجهاد كذلك لدرء الحرابة، بمعنى أنه عندما يعتدى علينا أحد بالحرب يشرع الجهاد القتالى لرد هذا الاعتداء، فكيف تنزع الآية وتضعها فى غير بابها، وتتجاهل أنها نزلت فى مكة فتفسر «وجاهدهم به جهادًا كبيرًا» أنه الجهاد القتالى فهذا تفسير خاطئ، والأصح هو جاهد بالقرآن، يعنى انشر تعاليم القرآن التى تصحح الاعتقاد، وتصحح للناس تصوراتهم عن اليوم الآخر، بحجج القرآن العقلية فى العقائد والبعث. 

■ الباز: الجهاد المقصود هنا هو الجهاد لنشر الدعوة. 

- أبوعاصى: نعم.. نشر الدعوة ونشر تعاليم القرآن، لأنه لم يكن هناك قتال فى مكة، والآية مكية، وعندما تفسر الآية بأنه جهاد قتالى، فأنت وظفت النص فى غير بابه. 

■ الباز: نحن نتحدث عن جناية إذن فى حق القرآن يرتكبها بعض المفسرين. 

- أبوعاصى: الجناية فى وضع الآيات فى غير موضعها وفى غير المراد منها، وهنا يمكن أن نصل إلى قضية خطيرة، وتظهر فى تفسير سيد قطب، فهو كان يصف المجتمعات بالجاهلية بالإطلاق. 

■ الباز: عندما تصف مجتمعًا بأنه جاهلى.. فدلالة جاهلى أن المجتمع كافر. 

- أبوعاصى: بالطبع.. جاهلى كان توصيفًا للمجتمع قبل مجىء الإسلام، فعندما تأتى إلى مجتمع تقام فيه صلاة الجمعة، ويقام فيه الأذان والشعائر والناس تعبد ربنا، ثم تطلق هذا الوصف على هذا المجتمع، وتقول إنه جاهلى، طبيعى بعد ذلك أن يأتى غلام ينتمى إلى جماعة متطرفة ويقتل الناس، لأنهم يعيشون فى مجتمع جاهلى. 

■ الباز: لأنك أطلقت الكلمة على إطلاقها. 

- أبوعاصى: الإطلاق هنا هو الخطأ، ووضع للحكم فى غير بابه، فيمكن أن تقول إن هذا مجتمع جاهلى فى سلوكه، ويكون لهذا أيضًا شروط، فالإطلاق مرفوض. 

■ الباز: لو وقفنا أمام كلمة الجاهلية.. وبحثنا عن معانيها فى القرآن كيف سنجدها؟ 

- أبو عاصى: هناك ٤ آيات بها كلمة جاهلية، منها «أفحكم الجاهلية يبغون»، «وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى»، فتبرج الجاهلية الأولى هنا سلوك وليس اعتقادًا، و«أفحكم الجاهلية يبغون» ويتحدث بها سيد قطب دائمًا، كان يقول إن المجتمع الذى يحكم بغير الشريعة فهو مجتمع جاهلى، وهنا وصف للمجتمع بأنه جاهلى بناءً على أن فيه معاصى أو فيه سلوك معوج، وهذا أمر خطير لأن المعاصى عند العلماء لا تُكفر، ربما تفسق، لكنها لا تخرج الناس من الإيمان. 

القرآن يقول «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما»، والقتال غير القتل، القتل كبيرة من الكبائر ومع ذلك لم يسلخ وصف الإيمان عنهما، والنبى يقول «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار»، فرغم الالتقاء بالقتال، إلا أنهما مسلمان. 

■ الباز: الرسول هنا يقول «إذا التقى المسلمان» يعنى ورغم أنهما ذاهبان إلى القتل، إلا أنه لم يسلب منهما صفة الإسلام، وكونه يقول إن القاتل والمقتول فى النار فهذا شأن آخر. 

- أبوعاصى: تأسيسًا على ذلك، فإن المعاصى- كما قلنا- لا تخرج العبد من الإيمان إلا إذا جحد، يعنى واحد يشرب الخمر فهذا مسلم، واحد ارتكب فاحشة فهذا مسلم إلا إذا استحل، والاستحلال ليس ذنبًا فى حد ذاته، ولكنه لأنه كذب الله وكذب النبى، ولم يأخذ بما قالاه. نعود إلى سيد قطب الذى يوظف النص فى غير موضعه، ففى تفسيره لـ«ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» يقول إن المسلم لو ترك حكمًا واحدًا لله فقد كفر، فلو لديك ١٠٠ حكم من الله وطبقت ٩٩ حكمًا وتركت واحدًا كفرت، وهذا أمر خطير. لقد أخذ «ومن لم يحكم» أخذها بإطلاق، والمجتمع الذى لا يحكم بما أنزل الله هو مجتمع كافر، ولو أخذنا الآية بلغتنا الكلاسيكية، سنجد أن الآية فيها عموم، لكن فى آية أخرى تقول «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا»، فهنا لدينا عمومان، عموم يقول إن هذا مسلم ومؤمن، وعموم آخر يقول إنه كافر. 

هذا الموضوع يقول عنه العلماء «الإيهام بالتعارض الظاهرى فى القرآن»، وفى الحديث النبوى شىء من هذا، فالرسول يقول «لا عدوى» وفى حديث آخر يقول «فر من المجذوم فرارك من الأسد»، هنا لا تعارض، فلا عدوى معناها أن الأشياء لا تعدى بذاتها، وفر من المجزوم معناها أن تأخذ بالأسباب ولا تعرض نفسك للعدوى. 

■ الباز: أريد أن أعود معك إلى «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا».. هذه قضية مهمة؟ 

- أبوعاصى: بالطبع.. فالعلماء، ومنهم ابن عباس، وهو من الصحابة الأوائل فى التفسير، يقول «كفر دون كفر»، يعنى أن الذى يترك الحكم بما أنزل الله هذا كافر كفر معصية، وليس كفرًا يخرج من الملة، والرسول يقول «لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، هنا الرسول لا يقصد الكفر الذى يخرج من الملة، ولكن كفر المعصية. 

■ الباز: دلالة الكلمة نفسها يمكن أن تحمينا من مخاطر كثيرة، فالكفر مثلًا معناه الحجب، فأنت يمكن أن تكفر بالنعمة بمعنى أنك تحجب شكرها. 

- أبوعاصى: مشكلة كلمة الكفر هنا، أنه تم استغلالها ووضعها فى غير بابها، وتحديدًا فى تكفير الحكام، فعناصر الجماعات المتطرفة قتلوا السادات بدعوى أنه كافر، لأنه فى رأيهم لم يكن يحكم بما أنزل الله، وقد اعترفوا بذلك فى التحقيقات معهم، دون أن يعرف هؤلاء أنه ليس كل من ترك الحكم بما أنزل الله يكفر، فقد يكون ترك الحكم ضرورة. 

■ الباز: قد يكون ترك الحكم ضرورة.. كيف ذلك؟ 

- أبوعاصى: هناك قاعدة يغفل عنها الكثيرون، فالضرورة كما تعترى الأفراد تعترى الدول أيضًا، يعنى افرض مثلًا أن دولة مضطرة، وقد تظهر هذه الضرورة فى وقت الأزمات الاقتصادية مثلًا، لكن الجماعات المتطرفة تزايد على الحكام وتحديدًا بمسألة تطبيق الشريعة. 

■ الباز: بالفعل.. هذه الجماعات لعبت بمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية وزايدت على مشاعر الناس الدينية وجعلتهم خصومًا للحكام. 

- أبو عاصى: عندما كنت تسأل هؤلاء عن تطبيق الشريعة يحصرونها فى قضيتين، فى الحدود وفوائد البنوك، والسؤال الذى يشغلنى هو لو أن دولة طبقت الحدود وتعاملت فى البنوك برأى الشريعة وتركت السنن الحضارية فى القرآن وتركت التقدم العلمى والتقدم فى التعليم والتكنولوجيا، هل تكون هذه الدولة تطبق الشريعة؟ تطبيق الشريعة لا بد أن يكون فى فقه الحياة، لأن تطبيق الحدود مثلًا أمر قد يكون مستحيلًا، لأنك عندما تقرأ الشروط فى تطبيق حد الزنا مثلًا لا يمكن أن يطبق إلا إذا وجدت اثنين على قارعة الطريق يمارسان الجنس، وكان هناك أربعة شهود على ذلك، ثم إن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال «ادرأوا الحدود بالشبهات». 

وقد حدثت واقعة أيام النبى، صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه أحدهم وقال للنبى: لقد زنيت فطهرنى من الزنا، فقال له النبى: لعلك لامست.. لعلك قبّلت.. لعلك فاخذت، لكنه أصر على قوله، فسأل النبى الصحابة: أبصاحبكم جنون، ولما أقاموا عليه الحد أخذ يجرى، فمسكوه، فقال لهم النبى: هلا تركتموه، لأن النبى اعتبر أن فراره فيه شبهة تُسقط عنه الحد، لأن القاعدة تقول إن الدين لا يتربص للناس بالعقوبات. 

■ الباز: الدين لا يتربص للناس بالعقوبات.. هذه قيمة كبرى زدنا عنها يا دكتور؟ 

- أبوعاصى: هذه قيمة كبرى بالفعل، فالدين لا يريد أن يعاقبك، والقرآن يقول «ما يفعل الله بعذابكم»، أى ما الذى يستفيده الله من عذاب الناس، ولذلك فالدين ليس حريصًا على العقوبات إلا بما يصلح المجتمع، وقد رأينا النبى يطلب من أصحابه ترك الزانى الذى فر، فربما كان فراره إسقاطًا للشبهة من حوله. 

وتعالى معى للحدود مثلًا، أنا أرى أنه لا يوجد حد لشارب الخمر، لكن هناك عقوبة تعزيرية، وهذا يعود أيضًا إلى فقه الدولة، فالدولة هى التى ترى شكل عقابه، تمنعه أو تسجنه طبقًا لما ترى من مفاسد، يعنى هو يقود سيارته وهو سكران ويمكن أن يعرّض حياة الناس للخطر، أو وهو سكران يهدد بسرقة الناس أو قتلهم أو يشكل خطرًا على أسرته، هنا يحدد القانون شكل العقوبة المناسبة. 

وقد تساءل العلماء: هل المحرمات تتفاوت بما يترتب عليها من مفاسد؟ 

يعنى القتل حرام والزنا حرام وسب الناس وقذفهم حرام، وأكل لقمة صغيرة ليست لك حرام والغيبة حرام والنميمة حرام.. لكن هل كل الحرام على درجة واحدة؟

الواقع أن الحرام يتفاوت باعتبار الآثار التى تترتب عليه، فإذا كانت الآثار جسيمة وكبيرة وتضر المجتمع، يعتبر الحرام هنا كبيرة من الكبائر، ولا بد لها من أشد العقوبات، وهذا غير حرام صغير لا يترتب عليه ضرر كبير لمن يرتكبه. 

وأنا أتعجب فى الحقيقة من الجماعات المتطرفة التى كانت ترفع شعارات مثل «حجابك كصلاتك»، رغم أن هذا فرض وهذا فرض، لكنهما ليسا متماثلين، تقول هذه الجماعات أيضًا إن اللحية فرض، فهل اللحية مثل الصلاة؟، البعض يسكت ويقول نعم، ومن يقول نعم هذا لديه جرأة عجيبة على الشرع. 

■ الباز: أعتقد أن هذا الرأى الذى تقول به لن يمر بسلام، فهو يحمل مساحات للنقاش والخلاف معك يا دكتور، لكن لنستكمل هذه القضية الخطيرة والتى أطلقت عليها «إنزال النص فى غير بابه» و«إخراج النصوص القرآنية من سياقها»، وضعت أمامنا بعض النماذج، لكن أعتقد أننا فى حاجة إلى المزيد، وليكن هذا موضع حديثنا المقبل.