رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف قدّم مسلسل “الحشاشين” تصويرًا دراميًا للفترة الأصعب بمصر؟

الحشاشين
الحشاشين

استعرض مسلسل الحشاشين، خلال عرض إحدى الحلقات فترة عن الشدة المستنصرية التي حدثت في مصر واستمرت لـ7 سنوات متواصلة عرفت بالعجاف، وسميت بالمجاعة التي وقعت نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري من تاريخ الدولة الفاطمية في مصر، وسميت تلك الحقبة تيمنًا باسمه بـ"الشدة المستنصرية".

الشدة المستنصرية: تاريخ مصر الأصعب 

تعتبر الشدة المستنصرية، التي امتدت لسبع سنوات متصلة من عام 457هـ إلى عام 464 هـ، هي أطول وباء عرفته مصر طوال حكمها الإسلامي، إذ كان سبب هذه الشدة هو توقف فيضان نهر النيل، فانعدمت الزراعة وخربت البلاد ومات أهل مصر جوعًا.

وتخللت تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئًا يأكلونه، فأكلوا الميتة والبغال والحمير.

في الفترة الثانية من حكم المستنصر انفصلت عن مصر بعض البلاد التابعة لها، منها بلاد شمال إفريقيا، وخرج عن يدهم حكم جزيرة صقلية، وزالت سيادتهم من على الحجاز.

يقول شيخ المؤرخين تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" عن الشدة المستنصرية واصفًا المجاعة: "لقد تصحرت أرض مصر وهلك الحرث و النسل، وخطف الخبز من على رءوس الخبازين، و أكل الناس القطط والكلاب.. حتى إن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في إحدى الحوادث، تم سرقتها وأكلها.. لقد جاع الخليفة نفسه؛ لدرجه أنه باع ما كان على مقابر آبائه من رخام. وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه. وخرجت النساء جياع يتظاهرن.

كما تناول كتاب "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" للمؤرخ المصري "تقي الدين المقريزي"، هذه الأزمة التي وقعت بمصر، قائلاً: "ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد، وأكل الناس الجيفة والميتات، ووقفوا في الطرقات فقتلوا مَن ظفروا به، وبيعتِ البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط، وبلغت رواية الماء دينارًا، وبيعت دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارًا اشتُري بها دون تليس دقيق".

مجاعة قاتلة: أكلت الأخضر واليابس

يقول المؤرخ المصري زين العابدين محمد بن أحمد، المعروف بابن إيّاس الحنفي والمكنى بـ"أبو البركات"، إنه من العجائب التي لا يكاد يصدقها عقل في زمن تلك مجاعة الشدة المستنصرية، أن الكلب كان يدخل إلى البيت فيأكل الطفل الصغير وكان أبواه ينظران إليه فلا يستطيعان النهوض لدفعه عن ولدهما، وذلك من شدة الجوع والضعف.

ويتابع بن إيّاس: "ساءت الأحوال واشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله، فلا ينكر عليه أحد من الناس.. وكان الناس في الطرقات إذا قوي القوي على الضعيف ذبحه وأكله، وكانت تصنع الخطاطيف والكلاليب وذلك لاصطياد المارة في الشوارع لذبحهم وأكلهم".

وروى "ابن إيًاس" في كتابه "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" ما دار لبغلة الوزير، حيث يقول: "إن وزير البلاد لم يكن يمتلك سوى بغل واحد يركبه، فعهد بالبغل إلى غلام ليحرسه، إلا أن الغلام من شدة جوعه كان ضعيفًا فلم يستطع أن يواجه اللصوص الذين سرقوا البغل، وعندما علم الوزير بسرقة بغله غضب غضبًا شديدًا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، وعندما استيقظ الصباح وجد عظام اللصوص فقط؛ لأن الناس من شدة جوعهم أكلوا لحومهم".

وروى المؤرخ "تقي الدين المقريزي" في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" عن سبب المجاعة،  فقال: “الغلاء الذي فحش أمره وضعف السلطنة، واختلال أحوال المملكة، واستيلاء الأمراء على الدَّولة، واتِّصال الفتن بين العربان، وقصور النِّيل "يقصد قلة مياه النيل”، وعدم من يزرع ما شمله الري.

ويتابع "طال الأمر الخليفة نفسه فقد وصل به الحال إلى الجلوس على حصير وتعطيل الدواوين وأرادت النساء الهروب من الأزمة إلى العراق فمتن قبل الخروج من القاهرة".

ويقول أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن الأمير تغري بردي الظاهري، الذي كان أبوه من كبار أمراء المماليك في عهد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق؛ عن الشدة التي ضربت مصر في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي: "وجلا عن مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحدّ، والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا، فإنّه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطبّاخين أنّه ذبح عدّة من الصّبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها. وأُكِلَت الدوابّ بأسرها، فلم يبق لصاحب مصر، أعنى المستنصر، سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابّة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسّنّور بثلاثة دنانير. ونزل الوزير أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلّا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأُخِذُوا وَصُلِبُوا، فأصبح الناسُ فلم يَرَوُا إلّا عِظَامَهُم، أَكَل الناسُ في تلك الليلة لحومَهم".

إنهاء المجاعة: الأمل الذي ضرب مصر من جديد 

أرسل الخليفة المستنصر إلى أمير الجيوش بدر الجمالى حاكم عكا يطلب منه المجىء لانقاذ الخلافة والبلاد، بسبب الاضطراب والفوضى التي عمت في داخل مصر، حيث قبل بدر الجمالي طلب المستنصر وجاء إلى مصر مع قافلة من المؤن والأغذية، والدواء، وتولى منصب الوزارة، فضبط عملية توزيع الحصص التموينية، وأعاد إلى البلاد الهدوء، والأمان، والاستقرار، حتى جاء فرج الله في فيضان النيل، فرويت الأرض، وعاد الفلاحون إلى الزرع، وعادت البلاد للحياة من جديد.

نجح بدر الجمالي بفضل حسن تدبيره، وبفضل عودة مياه النيل إلى طبيعتها الأولى وجريان الفيضان السنوى، في إصلاح الحال ووقف المجاعة وإعادة دولاب العمل إلى ما كان عليه قبل الشدة، وانفرد بدر الجمالى بالأمر إلى أن توفى فى خلافة المستنصر سنة 487هـ، وتوفى بعده المستنصر بستة أشهر في نفس العام بعد أن عاش كالمحجور عليه مع بدر الجمالى ثم من بعده مع ولده الأفضل الذى حل في الوزارة مكانه.

كانت الشدة المستنصرية سببًا رئيسيًا في ضعف وانهيار الدولة الفاطمية في عصرها الأول، وبداية العصر الفاطمي الثاني، والذي عرف بـ"عصر نفوذ الوزراء وزوال الخلافة الفاطمية" وأخذ الضعف يدب في جسم الدولة الفاطمية في عصرها الثاني، وأستاثر الوزراء فيها النفوذ والسلطان، وأصبح الخلفاء مسلوبي السلطة مع الوزراء، ودب الصراع بين الوزراء في أواخر أيام دولة الفاطميين إلى نهاية الدولة وزول الخلافة الفاطمية بعد حكم تعدى القرنين من الزمان.