رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن (4).. البحث عن فقه الحياة فى القرآن

الدكتور محمد سالم
الدكتور محمد سالم أبوعاصى مع الدكتور محمد الباز

توقفنا معًا عند الشرط الخامس، الذى لا بد أن يتوافر فى المفسر العصرى، وكان الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، قد أشار إلى الشروط التى وضعها الإمام محمد عبده لمن يتصدى للتفسير بأنها معرفة مفردات المعانى وأحوال البشر وأساليب القرآن وهداياته. 

■ الباز: يتبقى لنا الشرط الخامس ضمن شروط الإمام محمد عبده؟ 

- أبوعاصى: الشرط الخامس هو العلم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة، وإن كنت أنا أختلف معه قليلًا هنا، فالمعرفة بسيرة النبى مسلّم بها، لأنه كان النموذج لتطبيق القرآن، تجسدت معانى القرآن فى سلوكه وفى حياته، وسيرته يجب أن تدرس بالمعنى العام للفقه، وهو ما دفع الشيخ الغزالى إلى كتابة «فقه السيرة». 

ويجرنا هذا إلى قضية مهمة وهى منهج التعامل مع القرآن، لأننا لا بد أن ندرسه على أنه فقه حياة، ولا يجب أن ندرس الفقه فى القرآن بمعنى أنه أحكام شرعية صلاة وزكاة وصيام وحج وبيع وشراء، لكن بالمعنى العام، فندرس فقه المرأة وفقه الحضارة وفقه السنن الكونية، لأننا للأسف الشديد تركنا الفقه بالمعنى العام وركزنا على الأحكام، وهذا أمر خطير، وقد أشار محمد عبده إلى إنزال القرآن على المصطلحات المتأخرة. 

إننا فى حاجة إلى دراسة الفقه العام فى القرآن، نحتاج إلى معرفة فقه الحضارة، كيف تقوم الحضارات وكيف تنهار، كيف تتقدم الأمم وكيف تتأخر، وهذا يجرنا إلى وضعية القصص القرآنى. 

عندما ندرس القصص القرآنى، فلا يجب أن ننظر إليه على أنه حقائق ثابتة، ولكن ندرسه على أنه تاريخ يعلمنا متى تقوم الحضارة وكيف تنهار، وكيف نستبقيها، وكيف نتقدم إلى الأمام، لكننا حولنا القصص القرآنى إلى قصص وحواديت وروايات خرافية وخزعبلات، لذلك نجد أن الإمام على طرد القُصاص من المساجد، ولم يبق إلا الحسن البصرى؛ لأن وعظه كان منضبطًا. 

ولا بد أن نتوقف عند حالة الوعظ الحالى، فكثير من الدعاة يروجون الخرافات والكلام الذى يدغدغ المشاعر دون منطق عقلى، لذلك سرعان ما يختفى الدعاة بعد أن ينتشروا انتشارًا كبيرًا، وذلك لأنهم لا يستندون إلى أساس علمى راسخ، وتخيل أننا مازلنا نتحدث عن الإمام محمد عبده رغم وفاته عام ١٩٠٥. 

■ الباز: ليس الإمام محمد عبده، فهناك كثيرون غيره؟ 

- أبو عاصى: الشيخ المراغى لا يزال حاضرًا، والشيخ شلتوت أيضًا، وأنا لا أنسى كلمة قالها لنا الدكتور القيعى رحمه الله ونحن طلاب، قال: «لا يوجد شيخ فى الأزهر فى علم شلتوت، وشلتوت كان فقيهًا ينظر إلى النص الشرعى وينظر إلى الواقع، وكان الشيخ الغزالى يقول: أرونى فقيهًا مثل شلتوت، فمن يترك إبداعًا وتجديدًا يظل راسخًا فى النفس». 

ودعنى أعد بك إلى القصص القرآنى، فعندما نفتح كتب التفسير، نجد حواديت وقصصًا عن الأنبياء لا يمكن أن يقبلها العقل أو يتقبلها المنطق، فمثلًا فى قصة نبى الله أيوب تقرأ أنه كان مريضًا تمشى الديدان على جسده، فكيف لنبى يستمع الناس إلى هداياته ويكون بهذا المنظر، والمؤسف أن كثيرًا من الوعاظ يرددون هذا الكلام. 

■ الباز: هذا يجعلنا ندخل معًا إلى مساحة مهمة، وهى مساحة التعامل مع القرآن على أنه كتاب تاريخ.. ما رأيك فى ذلك؟ 

- أبوعاصى: القرآن كتاب حياة، فيه تاريخ، لكن ذكره الله حتى نعتبر، فعندما نقرأ «فأما عاد فاستكبروا فى الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة، أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة»، المعنى أنه عندما يرزقنى الله القوة لا أستكبر. 

■ الباز: وربما لهذا لا يهتم القرآن بذكر تاريخ وتوقيت القصص بدقة؟ 

- أبوعاصى: نعم لأن الهدف هو العبرة، وترى البعض يعيب على القصص القرآنى أنه غير مرتب تاريخيًا، مثل قصة موسى يتحدث فى سورة عن أولها وفى سورة أخرى يتحدث عن آخرها، وهذا ليس عيبًا، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، بل يهتم بالعبرة فى قصصه، يهتم بأن يضع أيدينا على موطن العبرة، ويسعى إلى تعريفك بأن النبى محمد لم يكن مخترعًا القرآن، والدليل أن القصص حدث وهو لم يكن موجودًا «وما كنت بالجانب الغربى»، والبعض يقول- وأنا لست منهم- إن القصص القرآنى رمزى، ويفسرون قصة آدم وحواء على أنها رمز للخير والشر، وأنها ليست قصة حقيقية. 

■ الباز: هذا التفسير يمكن أن يقودنا إلى التشكيك فى قصة الخلق كما وردت فى القرآن؟ 

- أبوعاصى: المشكلة أن من يقول بذلك يريد أن يتحاشى أى اعتراضات على القصص القرآنى التاريخى، فهو يغلق الباب باعتبار القصص مجرد رمز، والشاهد فى القول أن القصص القرآنى حقيقى وواقعى، ولا بد أن نأخذ منه العبرة فى حياتنا الحاضرة، ولا بد ألا نقرأ القصص على أنه تاريخ مضى، بل يجب أن نستصحبه فى حياتنا، ونحاول أن نأخذ منه العِبر والعظات. 

■الباز: قلت إنك تتفق مع الإمام محمد عبده فيما يخص دراسة سيرة الرسول، لكنك تختلف معه فيما يخص دراسة سيرة الصحابة.. لماذا الاختلاف هنا؟ 

- أبوعاصى: بين العلماء خلاف واضح حول حُجية قول الصحابى، فهل ما يقوله حُجة أم لا، الشافعى يقول: «كيف أحتج بقول من لو عاصرته لحاججته، ونحن نطرح قضية أخرى وهى هل نحن ملتزمون بالتفاسير التى جاءت عن الصحابة، فيتوقف بذلك التفكير والإبداع ونقف عند الصحابى الذى فسر الآية بهذا المعنى فقط، وهل تفاسير الصحابة كلها صحيحة أم فيها أخطاء، الأمر يحتاج إلى غربلة دقيقة». 

لذلك فأنا أقول إن علم المفسر بسيرة الرسول وسيرة نماذج من الصحابة يتفق ويتلاءم مع منطق القرآن، ولا نستبعد ما قام به زعماء الإصلاح الذين استخدموا المنهج القرآنى فى إصلاح البشر، فمن بعد الرسل والأنبياء يأتى المصلحون؛ لنتعلم منهم كيف نعلم الناس ونهديهم بالقرآن. 

■ الباز: على نفس الخط، وكما يحاول البعض الدخول إلى القرآن من حيث إنه كتاب تاريخ، هناك من يحاول الدخول إليه من باب أنه كتاب علمى وبه إعجاز سبق الكشوف العلمية والجغرافية.. كيف ترى هذه المحاولة أيضًا؟ 

- أبوعاصى: أنا أرفض مصطلح الإعجاز العلمى فى القرآن، ودائمًا ما أسأل جماعة الإعجاز العلمى عن مرادهم من كلامهم، فيقولون إن القرآن سبق إلى مراحل خلق الإنسان، أقول لهم إن القرآن سبق ثم جاء العلم وتوصل إلى ذلك نهائيًا، وهنا نتحدث عن العلم القطعى، وليس عن النظريات العلمية، فهناك فارق بين القواطع والظنيات، فرق بين أمر استقر العلم عليه، وأمر نظرى لا يزال محل بحث. 

فعندما يأتى القرآن بأمر قطعى فى مسألة الخلق ويأتى العلم ليبحث تطور الخلق ويصل إلى ما قاله القرآن فعلًا، فالقضية انتهت، يقول العلم ما قاله القرآن، وهذا فى الحقيقة ليس إعجازًا، لأن الإعجاز تحدٍ مستمر إلى يوم القيامة، فعندما تحدى القرآن البشر قال لهم أن يأتوا بمثله، ولم يفعلوا، وهذا هو الإعجاز، لأنه تحدٍ مستمر «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا»، ولن هنا للاستقبال، فالمعجزة لابد أن يكون فيها استمرار. 

لكن عندما تقول إن العلم قال كذا، وهو نفس ما قاله القرآن من قبل، فهنا القضية منتهية، ولا يوجد فيها تحد، لذلك أقول إنه لا يوجد إعجاز علمى فى القرآن، وعندما يثبت العلم شيئًا جاء فى القرآن، أقول إن العلم يؤيد القرآن، ويُصدق أن سيدنا محمد جاء بهذا القرآن من عند الله. 

■ الباز: البعض يعتبر الحديث عن الإعجاز العلمى، وأن القرآن سبق العلم هو تأكيد أيضًا على أن القرآن جاء من عند الله، أنه يحقق نفس ما تراه وأنك ترفض وجود الإعجاز العلمى فى القرآن. 

أبوعاصى: لا توجد مشكلة بالطبع أن نثبت للناس أن العلم يوافق القرآن فى بعض الأمور، لكن هل نسمى ذلك إعجازًا أم لا؟ أنا أرى ألا نسمى ذلك إعجازًا علميًا، ثم إننا نخلط بين النظريات العلمية والحقائق العلمية، النظريات متغيرة، فعندما جاء أينشتاين بنظرية النسبية، خرج بعض العلماء وقالوا: النسبية موجودة فى القرآن «يوم يرونه قريبًا ونراه بعيدًا»، وعندما يشكك أحد فى النسبية، أنت تعرض القرآن بذلك للظنون والشك. 

هذه ليست المشكلة الوحيدة، فبعد أن نقر بأن العلم وصل إلى الحقائق القرآنية، سنجد من يتساءل: وهل هذه الحقائق العلمية كانت معروفة أيام النبى، أم أنه لم يكن يعرفها؛ ولذلك لم يتحدث عنها، وهو ما يفتح بابًا واسعًا للنقاش. 

■ الباز: كيف ترى أنت هذه القضية؟ 

- أبوعاصى: طبقًا لمدلول اللغة، فإن النبى يُوحى إليه ويعلم لغة العرب، فهو يعلم ما يتضمنه النص من حيث ما يحتمل من معانٍ لغوية، وأنا أعتبر ما نتحدث عنه تفسيرًا علميًا وليس إعجازًا علميًا. 

والسؤال: هل هذا التفسير يتفق مع مدلول النص ويتحمله؟ وهل يتفق مع ثوابت الدين أم يتعارض؟ إذا تحقق ذلك فنحن نقبله، وبهذين الشرطين فإن النبى «صلى الله عليه وسلم» كان يعلم بالحقائق العلمية، باعتبار أنه يُوحى إليه، لكن هل كان يعلم ذلك من خلال مدلولات النصوص، بمعنى أن المعنى يحتمل كذا وكذا... فهذا أمر وارد. 

■الباز: يدخلنا هذا أيضًا إلى قضية أخرى مهمة، وهى قضية العلاج بالقرآن، فلدينا من يصدرون أنفسهم على أنهم معالجون بالقرآن.. كيف ترى هؤلاء؟ 

- أبوعاصى: أرى أن هذا «دجل». 

■ الباز: هل هو دجل على إطلاقه؟ 

- أبوعاصى: دعنى أقل لك كيف هو دجل، فعندنا أمراض لا حصر لها، حتى الطب إلى الآن لم يصل إلى علاج نهائى لها، مثل الضغط والسكر، والسؤال: ما معنى أن تعالج بالقرآن؟ تريد مثلًا أن تشفى الناس، فهل القرآن يمكن أن يشفى السرطان، أو مرضى السكر والضغط، عندما يعلن أحد أنه يعالج بالقرآن يكون دجالًا. 

وقد يحتج أحد ويقول، وكيف نفسر قول الله تعالى «فيه شفاء للناس»، فالشفاء هنا من الأمراض المعنوية من الحقد والغل والضغائن. 

■ الباز: العلاج هنا ينصرف إلى المساحة الروحية والنفسية فقط؟ 

- أبوعاصى: نعم بالطبع، وأذكر أن قريبًا لى كان له صديق يعانى من مشكلة فى العمود الفقرى، فأرسلته لطبيب شاطر جدًا، ولما ذهب إليه قال له إنه يقوم بعمل حجامة، فتعجب الطبيب؛ لأنه قال له إنها من الطب النبوى، رغم أنها مجرد عادة عربية. 

■ الباز: والشفاء من خلالها غير مضمون مائة بالمائة. 

أبوعاصى: الأهم من ذلك أننا عندما نتحدث عن علاج بالقرآن، فنحن نعرض القرآن للخطر، فهو ليس كتاب طب، كما أنه ليس كتاب هندسة، سمعت أحدهم يقول إن الهندسة فى القرآن ويستشهد بالآية الكريمة «انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب»، وهذا بالطبع كلام فارغ، فالقرآن أنزله الله للهداية وليس من أجل فتح عيادات. 

■ الباز: القرآن سبيل للهداية والعلم والتفكر والتدبر، وهذه مهمته الأساسية.. العلاج به تحميل له بما لا يطيق. 

- أبوعاصى: لقد أعجبنى ما قاله أحد العلماء إن القرآن لا يدخل فى الحقائق العلمية، بل يشير إلى العلم إشارات من بعيد، لأن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، القرآن يشير إلى قضية ما، لكنه لا يدخل فى تفاصيلها، لأن القرآن منطقيًا لو دخل إلى القضايا العلمية وحسمها يتوقف العلم تمامًا. 

■ الباز: قبل أن نغلق هذا الملف، الناس أحيانًا يجدون من يقرأ القرآن على بعض المياه، ويطلبون من شخص أن يغتسل بها حتى يُشفى، أو يقوم برش المياه نفسها جلبًا للبركة.. كيف ترى ذلك أيضًا؟ 

- أبوعاصى: أذكر أن قريبًا لنا كان مصابًا بالسرطان، وجاء أحدهم وبدأ يقرأ عليه بعض سور القرآن، وفى النهاية مات، يجب أن نلتفت إلى منهج القرآن ونأخذ بالأسباب، يقول الرسول: ما خلق الله داء إلا خلق له دواء. 

المنطق يقول إننا لا بد أن نأخذ بالأسباب، فعندما يكون هناك مرض، النبى يقول إن هناك علاجًا، نأخذ بالأسباب ونترك العلاج على الله، يأتى أحدهم ويقول «رش المية» يمكن أن يكون سببًا فلماذا لا نأخذ به، بالطبع ليس سببًا بل تحايلًا، المفروض أن نأخذ بالسبب الذى يصل بنا إلى النتيجة. 

القرآن يقول «فاسألوا أهل الذكر»، وأهل الذكر كلٌ فى تخصصه، وليس علماء الدين فقط، أنا أريد أن أبحث فى مسألة طبية، فلا بد أن ألجأ إلى طبيب، أريد أن أبنى بيتًا فلا بد أن أستعين بمهندس. 

■ الباز: وصلنا معًا إلى أن القرآن ليس كتاب تاريخ، وليس كتاب علم، وأن من يقومون بالعلاج بالقرآن يمارسون شكلًا من أشكال الدجل، وهو ما سيقودنا إلى قضية أخرى مهمة ومرتبطة بمن يفسرون القرآن، فلدينا من نعرفهم بالمفسرين المدنيين إذا جاز التعبير، هؤلاء الذين دخلوا إلى تفسير القرآن من خلفيات مدنية، وتصدوا للقرآن والدراسات القرآنية.. وهؤلاء سيجمعنا عنهم حديث مستقل.