رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بعد الاجتياح!

الحقيقة المؤكدة أن اجتياح منطقة رفح الفلسطينية قائم، وتجرى وقائعه، فى وضح النهار، أمام أعين الجميع، الذين يديرون الظهر لما يجرى، وكأنهم لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون، وكل يوم تسقط غدرًا المئات من القتلى والجرحى الفلسطينيين، لكنهم بلا أهل ولا ظهير ولا ثمن. 

وتُكتشف كل يوم مقابر جماعية تحوى المئات من الجثث الفلسطينية المقتولة غدرًا، وبعضها مكبل الأيدى، فى جرائم يندى لها جبين الإنسانية، دون أن يهتز للعالم المأفون جفن أو يتحرك له ضمير! 

والحجة الجاهزة لـ«نتنياهو» وزمرته من السفاحين القتلة، بالإصرار المعلن على إتمام مجزرة رفح، أنهم يسحقون قوى المقاومة الفلسطينية، وبالذات حركة «حماس»، ولا يكف هو وزمرته من السفاحين القتلة عن الادعاء الكاذب أنهم قضوا على غالب قوة المقاومة الفلسطينية، وحاصروا كتائبها ودمروا أنفاقها، وصادروا مصانع أسلحتها ومخازن عتادها الاستراتيجية.. إلخ. وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على بدء حرب الإبادة الشاملة الصهيونية على أهل غزة، تعترف «القناة ١٤» الصهيونية بوضوح كاشف: «إن (حماس) تطلق الصواريخ على إسرائيل بذات القوة التى كانت عليها فى الأسابيع الأولى من الحرب»!

ومعنى ذلك، بوضوح، أن حجة اجتياح غزة بداعى تصفية حركة «حماس»، ورفاقها، أمر وهمى، ويؤكد الخبراء والعسكريون، الإسرائيليون والأمريكيون والغربيون قبل غيرهم، أن القضاء على «حماس» ووأد فكرة «المقاومة»، وفرض «الإذعان» للأمر الواقع، والقبول بتصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، أمر مستحيل التحقيق مهما كانت التضحيات، ومن هنا إعادة طرح مشروع «الدولتين» البائس، كتسوية شكلية للصراع، تمتص طاقة الفلسطينيين بإعادة «تدوير» ما يوصف بـ«حل» سبق طرحه فى التسعينيات فى صيغة اتفاق «أوسلو» وتأكد فشله! 

فلماذا إذن يصر «نتنياهو» وأركان عدوانه على الإقدام على خطوة «رفح» التى يعلن الجميع، وأصدقاء «إسرائيل» قبل أعدائها، وأحباء «نتنياهو» قبل خصومه، عن تحفظهم عليها، إن لم يكن رفضهم لها؟ ليقينهم أنها ستخلّف مأساة إنسانية غير مسبوقة، وكارثة بشرية لا مثيل لها، وسيكون لتوابعها وقع البراكين وأثر الزلازل، التى تهز استقرار العالم، وتقوض أمنه، وتضر بمصالح الجميع كبروا أم صغروا!

السبب يقينًا أن «نتنياهو» فى ظل أزمته السياسية المستحكمة: فى مواجهة القضاء الذى يطارده بقضايا فساد وتَكَسُّب قد تقوده للسجن وتؤدى إلى تدمير سمعته ومستقبله السياسى، ومع المجتمع الصهيونى الذى سيحاسبه على «تقصيره» فى التنبه لعملية «طوفان الأقصى» والتحسب لنتائجها الكارثية، وتأثيراتها النفسية والاقتصادية، وبالنسبة لمستقبل الكيان نفسه، وأزمته مع أهالى المحتجزين لدى المقاومة و«حماس»، الذين عيل صبرهم وهم يتلقون يومًا بعد يوم نبأ مقتل محتجز تلو آخر جراء الهجمات المدمرة لآلة الحرب الصهيونية الغاشمة، ومع حلفائه من اليمين الدينى الإرهابى المتلمظين لـ«تطهير» ما يسمونه «أرض الميعاد» من آخر كائن حى ينتمى إلى شعب فلسطين، أو مع الشباب، والطلاب، والمواطنين من شتى شعوب العالم، الذين انتفضوا رفضًا لحرب الإبادة الصهيونية فى غزة والأراضى الفلسطينية، بل ومن اليهود أصحاب الضمير الذين هالهم ما يُرتكب باسمهم من مذابح وإبادات.. إلخ!

فـ«نتنياهو» فى ظل هذا كله يعمد إلى استراتيجية مزدوجة: أول أجنحتها: إطالة مدة «الحرب» لتأجيل هذه المواجهات «الحديّة» قدر الإمكان، على أمل تحقيق «نصر» يبرر له كل الخسائر التى يتحمل، شخصيًا، مسئوليتها بشكلٍ رئيسى، وجناحها الثانى إتمام عملية «تطهير» الكيان، أو «الدولة اليهودية» من «العرب» (الفلسطينيين) تطهيرًا شاملًا، وإنجاز عملية طرد مَن تبقى من أبناء الشعب الفلسطينى، طردًا إجباريًا إلى سيناء المصرية، والأردن، إلى كليهما أو لأىٍ منهما، تحت وطأة المجزرة التى لا مناص من «إنجازها» فى رفح لكى تحقق الصدى النفسى والتأثير العصبى الدافع لتحرك الفلسطينيين المحاصرين باتجاه الخارج هربًا من الموت، وبذا تنتهى القضية الفلسطينية بقهر الأمر الواقع، ومساندة أمريكا والغرب، كما حدث فى مسألة اغتصاب أرض فلسطين، وتكوين الكيان الصهيونى من العدم عام ١٩٤٨، وباعتبار أن «الطرد» أو «الترانسفير» باستخدام القوة العمياء هو جوهر «المشروع الصهيونى»، كما يعرف ذلك، وقال به، وتداول على تنفيذه كل زعماء الكيان الإرهابى.

ولذلك لا يجب الاستغراب من مماطلات «نتنياهو» وعصابته فى ماراثون المفاوضات الفلسطينية الصهيونية التى تتم برعاية دولتى مصر وقطر، فالإعلام الصهيونى نفسه، «حسب موقع (أكسيوس) الإسرائيلى»، ينقل عن عضو فى «الكابينت» الأمنى والسياسى، رفض إعلان اسمه، أن «نتنياهو لا يريد صفقة بتاتًا، ويضع عراقيل أمامها، وهو نفس ما تردده عائلات المحتجزين فى غزة.

ورغم تعاظم الخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية فمن المؤكد أنه عدا أهالى المحتجزين فى أيدى المقاومة، فإن جموع الإسرائيليين الصهاينة غير معنيين باستنقاذ محتجزيهم، أو بتحقيق أى مستوى من التهدئة، بل إن زعيم المعارضة الصهيونية «يائير لابيد» يطرح حلًا «سحريًا» لمواجهة مشكلات استمرار الحرب وتفاقم خسائرها البشرية والمادية: «ليس لدى (جيش الدفاع) ما يكفى من الجنود، وعلى جميع الإسرائيليين الانضمام إليه، ولن نتمكن من الانتصار فى الحرب بقطاع غزة إذا لم ينضم جميع الإسرائيليين إلى الجيش»!!

يا إلهى... تجييش الملايين من الصهاينة لهزيمة المقاومة الفلسطينية المحدودة العدد والعُدة، والمحاصرة بلا داعم أو نصير!! إنها بالفعل مهزلة تشبه الهزيمة، بل هزيمة هزلية لـ«الجيش الذى لا يُقهر».. فماذا نحن فاعلون؟!