رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح الأخلاق ورِفعَة المجتمع

(تغيرنا كثيرًا.. أصبحنا لا نعرف عن بعضنا، سوى أننا على قيد الحياة!)، قالها جبران خليل جبران.. ويتساءل فاروق جويدة: كيف نُعيد للعلاقات الإنسانية مشاعرها القديمة حين كانت الرحمة دستور الحياة، وكان العدل ميزان كل الأشياء، وكان الفقير لا ينام جائعًا، وكان الغنى يجعل من ماله طريقًا لحب الناس ورضاء الخالق.. إن الإنسان هو الذى يصنع السعادة ويرسم الجمال، ويستطيع أن يكون إنسانًا أو يتحول إلى شيء آخر غير ما خلقه الله عليه.. بين ظهرانينا، حكايات غريبة وقصص لا تنتهى، عن علاقات إنسانية مريضة ومشبوهة، وأعود أسأل: لماذا تغيرت أخلاق الناس؟.. هل هو الفقر الشديد أم الثراء الفاحش؟.. أم قوة الجاه وسطوة السلطان؟.. لابد أن يراقب الإنسان نفسه، وما يطرأ عليه من التغيرات، لأنه أحيانًا يجنح يمينًا أو يسارًا، وهو لا يدرى أن حياة الإنسان مثل قيادة السيارة، قد يُخطئ ويدفع الثمن، وكذلك المجتمعات، قد يتبدل فيها كل شىء وهى لا تدرى.
من الظواهر المتّفق عليها، والتي لا تحتاج إلى أدلّة تثبتها وتبرهن عليها، ظاهرة الاستهانة بالقتل.. فقد أصبح شيئًا سهلًا هينًا، وصارت أخباره كسائر الأخبار، لا تُحدث في النفس ذلك الهلع والألم والحزن الذي كانت تحدثه، إبّان كان الإنسان على الفطرة التي خلقه الله عليها.. فما سرّ ذلك؟.. وما الذي جعل البشر يقعون في هذه الخطيئة العظيمة التي هي أعظم خطيئة على وجه الأرض، فالإنسان بنيان الله ملعون من هدمه؟.. والسؤال الأخطر من ذلك، هو عن سر وجود هذه الظاهرة، التي حرمتها كل الأديان السماوية، ونصت كل الرسالات على عظم هذه الجريمة وخطرها، فالقرآن الكريم توعّد القاتل المتعمّد بالخلود في النار، بالإضافة إلى غضب الله عليه، ولعنه، قال تعالى: ﴿ومنْ يقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتعمِّدًا فجزاؤُهُ جهنّمُ خالِدًا فِيها وغضِب اللّهُ عليْهِ ولعنهُ وأعدّ لهُ عذابًا عظِيمًا﴾ [النساء: 93].. والنبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلّم، اعتبر القتل من أعظم الجرائم، فقال: (والذي نفسي بيده، لقتْل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، واعتبره من أول وأعظم ما يُقضى به يوم القيامة، ليأخذ كلٌ حقه، فقال: (أولُ ما يُحاسبُ به العبدُ الصلاةُ، وأولُ ما يُقضى بين الناسِ الدماءُ)، بل ذكر ما هو أخطر من ذلك، فقال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا).. لكن كل هذه التوجيهات وغيرها كثير، لم يردع النفوس عن استساغة هذه الجريمة، والتهوين من شأنها، واعتبار قتل الإنسان شيئًا لا يختلف كثيرًا عن قتل الذباب والبعوض والهوام.. فما سرّ ذلك؟
ليس في طاقتي أن أجيب عن هذا السؤال الخطير، لأني لست محلّلًا نفسيًا، ولا مُصلحًا اجتماعيًا، ولا خبيرًا استراتيجيًا، ولا عِلم لي بالطُرق التي يستعملها الشيطان لجرّ الإنسان إلى صفّه.. ولكني أستطيع أن أذكر شيئًا عن ذلك الوقت التي كانت فيه الأخبار تترى، تلك الممتلئة بأولئك الذين (يُكبّرون) مستبشرين لكل دم يزُهق، ولكل بنيان يُهدم، حتى حصل للبعض فوبيا بسبب (التكبير).. كان ذلك عمود خيمة المصيبة التي وصلنا إليها.. فى أوقات المحن والأزمات تظهر معادن البشر، وفى كل يوم تبدو حكايات وقصص غريبة، عن تغيرات فى أخلاق الناس.. وكثيرًا ما نتساءل: ما الذي يغيّر البشر؟.. هل الواقع الاجتماعى؟.. أم هو الزمن الذى يترك علاماته على الوجوه والملامح؟.. أم هو الفقر حين يتسلل إلى البيوت ويفرق القلوب ويعصف بالأمن والمشاعر؟.. أم هو الزحام حين يتكدس البشر ولا يرى أحد منهم الآخر؟.. أم هو التفاوت الرهيب بين الفقر والغنى؟.. حين تبتعد المسافات بين الناس، ويغيب شيء جميل يسمى الرحمة، تتحول البيوت والشوارع إلى أوكار للحقد والكراهية.
حينما نبحث فى تاريخ مصر منذ الفراعنة، نجد أن الأخلاق موجودة عند المصريين منذ فجر التاريخ، والحضارة المصرية القديمة تشهد بذلك، حيث الأخلاق هى ركيزة الحضارة، كما أثبته بالدليل القاطع العالم جيمس هنرى برستيد، فى كتابه "فجر الضمير" حينما قال، "إن ضمير الإنسانية بدأ فى التشكل فى مصر قبل أى بلد فى العالم، وذلك منذ نحو خمسة آلاف عام".. وأدّعي أنه في جوهر أي تحول اجتماعي في العالم العربي، فإن علاقة القيم في أي مجتمع إنما هي انعكاس لنمط حياة، أو أن نمط العيش هو أحد تجليات المنظومة القيمية الحاكمة في أي مجتمع، والتي نعبر عنها هنا بالأخلاق بمعناها الواسع.
أستاذ علم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، ربط ظهور الرأسمالية بالأخلاق للبروتستانتية، أي أن أخلاق البروتستانتية كمذهب مسيحي، التي أعلت قيمة العمل، هي التي أدت إلى ظهور النظام الرأسمالي، وربما النقطة الأكبر هي أن العالم المادي، في رؤية ماكس فيبر، ما هو إلا انعكاس للمنظومة القيمية للمجتمع، أي أخلاق ذلك المجتمع.. ورؤية فيبر هي عكس الرؤية الماركسية، التي ترى أن الأخلاق في أي مجتمع أو الأيديولوجيا، هي انعكاس للعالم المادي أو علاقات الإنتاج في أي مجتمع، أي أن أخلاق المجتمع التي تركز على التراتبية في الأوضاع الاجتماعية، ما هي إلا انعكاس لعلاقات الإنتاج الظالمة.
الأخلاق الإسلامية تُعلي قيمة العمل، ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كُنتُم تعملون﴾ [التوبة آية 10593].. وهناك آيات وأحاديث كثيرة تحث على قيمة العمل، ومع ذلك، فالمجتمعات الإسلامية، والعربية منها على وجه الخصوص، لم تنتج مجتمعًا رأسماليًا، كما ترى نظرية ماكس فيبر.. ومن هنا يكون السؤال: هل قيمنا وأخلاقنا هي مجرد ادعاء، ولم تصل إلى نوع من الممارسة، ولذلك لم تنتج نمطًا اقتصاديًا مناسبًا؟.. وهذا ما أظنه قريبًا من الصحة، أم أن العلاقات الاقتصادية في المجتمعات العربية، هي علاقات مشوهة تعكس أخلاقًا مشوهة حسب الرؤية الماركسية؟
ما أريده هنا، أن نتأمل قيمنا الإسلامية وأخلاقنا المدعاة، فهي حتى هذه اللحظة لم تنتج نظامًا اقتصاديًا، تكون فيه قيمة العمل هي القيمة الأسمى في المجتمع.. ظني أن قيمنا وأخلاقنا لا وجود لها في عالم الممارسة، إلا في واحات صغيرة في هذا اليباب والجدب.. والتحدي اليوم، هو كيف نواجه أنفسنا بأن قيمنا هي مجرد كلام لا ممارسة؟ وكيف ننقلها من عالم الكلام إلى عالم الممارسة؟.. مهم أن ندرك أيضًا، في عالم ما سُمي بـ"الصحوة الإسلامية" خلال عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، لم تتغير أنماط الإنتاج ولم يزد الناتج القومي، ولم يحدث أي شيء يذكر فيما يخص انتصار قيم العمل في المجتمع. وبهذا تكون الصحوة مجرد كلام ومظاهر، ولا انعكاس لها على علاقات الإنتاج، إلا في عمليات النصب الاستثماري الذي رأينا أمثلته في تلك الفترة التي أشرت إليها، أو في مظاهر الزِّي، من حجاب وجلباب قصير، إلى آخر قائمة المظاهر الكاذبة، التي تغطى خواءً أخلاقيًا.
سيقول أحدهم: وما علاقة الاقتصاد بالأخلاق؟.. وهل لو غابت الأخلاق عن أيِّ مجتمعٍ وانتشرت فيه الجريمة، هل هذا المجتمع سيكون بيئةً مناسبةً للنمو الاقتصادي؟.. الإجابة قطعًا "لا"، بل على العكس سيتعرض المجتمع لخسائر فادحة كونهُ أصبح بيئةً طاردةً لرءوسِ الأموال الأجنبية، ومِن ثمّ فقدان أي استثمارات خارجية، ناهيك عن فقدانِ عوائد النشاطِ السِّياحي، ومن ثمّ تراجعِ المجتمعِ اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وجعلهُ عرضةً للانهيار، إذ إن غياب أخلاقيات، كالتسامحِ وتقبُّلِ الآخر كفيلة بظهور مشكلة التّطرُّفِ والإرهاب، وهو ما يُهدِّدُ الاستقرار والتنمية، ومن ثم انهيار المجتمع.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.