رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الأمية".. يا أمتى الناهضة

معلوم أن الأمة في بنيانها كالفرد الذي لا يمكن له أن يصير له وجود وحياة بين الناس إلا من خلال ثلاثة ـ من وجهة نظري ـ  أولها فكر يقوده لتدبر أمور معيشته ويرشده في كل ما يقدم عليه من أعمال، وثانيها أدوات يعمل بها ليعيش، وثالثها قوة تدفع عنه كل شرير ومغتصب وسالب لحريته، فإن افتقد الإنسان إلى أي من العناصر الثلاثة افتقد كل  شيء.. فلو أصابه الوهن في أمر الدفاع عن نفسه ومقاومة الشر هان أمره على خصمه، ولو لم يمتلك أدواته تراجعت مساعيه ولم ينجح في إدراك مقاصده، ولو لم تكن له رؤية ووجهة نظر اختل ميزان سيره والتبس الأمر عليه فسار خلف ما توجهه إليه الصدفة، وارتكب الفعل العشوائي غير القابل للتنظيم أو التطوير ومن ثم استحالة تحقيق التقدم..
وهكذا الحال في الأمم التي ترغب في مغالبة الأزمات وشدائد الأحداث، ولكي تكون قائمة تتمتع بوجود مستقل لا بد لها أن تنبذ آفة الجهل وتواجه متطلبات المعرفة والعلم والتعلم والتواصل مع كل أسباب السبق وتحقيق التفرد والتميز.. وضرورة استئصال كل عناصر التخلف البليدة المخربة وخاصة التي تتربع على قمم مؤسساتنا ودواويننا الحكومية.. فمن يخرب لا يستطيع التعمير في أي مرحلة من مراحل تاريخ الأمم.. علينا ألا ندع للشيطان ما يدافع  عنه حتى لا يكون الحصاد حصاد الخاسرين.
إن تدني المستويات الاجتماعية وانخفاض معدلات التقدم للإنسان في منطقتنا العربية يعود في المرتبة الأولى لانتشار الأمية والفقر وعدم تفعيل دور الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني وأيضًا تخلف نظم التعليم والتواصل الثقافي والاجتماعي.. إلا أن مشكلة الأمية وارتفاعات معدلاتها بشكل غير مقبول تظل هي العقبة الأخطر في تحقيق معدلات التنمية المأمولة لإنسان هذه المنطقة.
وفي مصر تعود جهود محو الأمية منذ النداء الأول لعلي مبارك من خلال أول وزارة للمعارف عام 1868 لمناهضة التخلف ونزع عار الأمية بوجهها القبيح عن أبناء شعب مصر منذ ما يقرب من 138 عامًا.. ثم لا يمكن أن ننسى الخطاب السياسي والاجتماعي للزعيم مصطفى كامل وما تضمنه من نداء ودعوة لمحاربة هذا الداء العضال.. ويذكر لنا التاريخ صدور القانون الأول لمحو الأمية عام 1944 الذي ألزم كل متعلم أن يمحو أمية أمي وأكدت بنوده على تجريم الأمية بل ومعاقبة الأمي ومن يمتنع عن محو أميته بالسجن.. ولقد أتت ثورة يوليو 1952 ومعها المشروع القومي لمحو الأمية الذي أطلق شرارته جمال عبدالناصر.. وانتهى عصر ناصر وظلت الأمية.. ثم كان عصر السادات وتشكيله للمجلس الأعلى لمحو الأمية.. وكان ما كان وانقضى زمن الرئيس الراحل السادات وظلت الأمية.. ثم تُبذل جهود عبر حقبتي الثمانينيات والتسعينيات وكان قد صدر قرار الرئيس مبارك بأن يكون عقد محو الأمية من 1990 ـ 1999.. ومع ذلك ظلت الأمية كابوسًا جاثمًا على صدر البلاد.. وفي الزمن المباركي، كان الإعلان عن مشروع قومي لمحو الأمية في الفترة (2003 ــ  2007) وأتذكر حضوري في تلك الفترة ندوة نظمتها الجمعية العربية للإدارة والتي كان يرأسها الدكتور علي السلمي  (الذي تقلد في مرحلة تالية منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة د. عصام شرف) وذكر المحاضر الرئيسي  د. رأفت رضوان رئيس هيئة محو الأمية في تلك الفترة أن نسبة الأمية في مصر قد تصل إلى 40%، ولنا أن ندرك حجم المأساة عندما نعلم أن عدد من بصموا في الكشوف خلال العملية الانتخابية الأخيرة وصل إلى 4.5 مليون ناخب من بين سبعة ملايين أدلوا بأصواتهم.. إن هذا الرقم وغيره من الأرقام التي ذكرها                 د. رضوان ومدلولاتها لا شك تجعلنا نستشعر خطورة ما نحن مقدمون عليه، خاصة أن هناك محاولات حقيقية لتحقيق إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي بحماس مدفوع بإرادة سياسية ورعاية في ظل دولة 30 يونيو والجمهورية الجديدة..
ولا شك أن إفرازات المجتمعات الأمية واختياراتها مهما بلغت درجات حسن النية والنقاوة والانتماء تتمخض بلا جدال عن نتائج تدفع إلى السقوط والتردي.. وإذا كانت تلك الأرقام تشير إلى أمية القراءة فكيف الحال بالأمية الثقافية والأمية الصحية والاقتصادية وأمية التعامل مع الحاسبات والنظم الإلكترونية؟.. ماذا عن أمية خريجي الجامعات وافتقادهم حتى للثقافة النوعية المعرفية في مجالات تخصصاتهم؟!.. تلتقي بخريج كلية الطب فتجده أمي المعرفة بتاريخ المهنة وروادها وحتى عناوين أمهات المؤلفات العلمية والفكرية في مجال مهنته وما يحدث على الساحة من تفاعل مهني وعلمي وتقني وأحدث الدوريات وأعظم المواقع الإلكترونية العاملة والفاعلة في نطاق تخصصه..
أرى أن يكون لكليات التربية والتربية النوعية الدور الأهم.. فلماذا لا يتم تخصيص عام جامعي يكون بمثابة مشروع تخرج (على غرار سنة الامتياز للأطباء) تُحشد فيه كل الجهود لتدريب كوادر مؤهلة لمحو الأمية باستخدام كل الوسائل العلمية والتعليمية الحديثة المتطورة.. بل إنني أراه واجبًا على كل جامعاتنا بالتعاون مع الإدارات المحلية لإعداد مراكز خدمة مجتمع تقدم خدمات متكاملة للقرى والأحياء.. خدمات  وثقافة صحية.. أنشطة رياضية وثقافة رياضية… إلخ..
هل ننتظر عرض قضية محو الأمية بكل تاريخها وحلولها العلمية المقترحة باعتبارها المشروع الوطني الهام على طاولة الحوار الوطني من جديد؟..
فلنرفع جميعًا شعارات الهيئة.. دواوين حكومية بلا أمية.. وحدات قوات مسلحة بلا أمية.. نقابات بلا أمية.. مصانع بلا أمية.. تعالوا نرفض الأمية في كل موقع.. ونرفض أن تُلقب القاهرة عاصمة المعز بعاصمة الأمية بعد أن بلغ عدد الأميين أكثر من مليون مواطن.. ولا نقبل أن تحتل مصر ذلك المركز المتراجع على مستوى العالم في ارتفاع نسبة الأمية.. فهل نأخذ بعين الاعتبار تجربة دولة كوبا الناجحة ـ  كما يذكرنا بذلك دائمًا د. رضوان ـ التي استطاعت بإرادة سياسية ومجتمعية القضاء على الأمية خلال عام واحد فقط  رغم ارتفاع نسبتها عما هو الحال لدينا.. هل من ضوء في نهاية نفق الأمية المظلم؟.
لقد حرص الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ اليوم الأول لولايته لإحياء دور العلم والعلماء وكان تشكيل مجلس العلماء والذي انضم إليه نخبة رائعة من أهل العلم والتعليم والفكر والإبداع العلمي.. قال الرئيس "مصر الجديدة تولي أهمية قصوى لبناء الإنسان المصري صحيًا وعلميًا وثقافيًا، ومن هذا المنطلق كان إعلان العام عامًا للتعليم في مصر، إيمانًا منا بأن العلم والتعليم هما أساس النهوض بالمجتمع والعمل على تنميته، حيث تستهدف الدولة تنشئة العقل المفكر المستنير، المستعد لقبول العلم والمعرفة، والذي يتحلى بمهارات الفهم والتطبيق والتحليل، لذلك سعينا لتطوير المنظومة التعليمية لضمان تعليم جيد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمتطلبات المجتمع وسوق العمل المحلية والدولية ويسهم في تخريج أجيال قادرة على الإبداع والمنافسة"..
الأمل كبير بإذن الله أن تُستنهض الهمم وأن تتكاتف كل الجهود في دعم مشروع وطني لمناهضة الأمية.. فهل نحمل رايات الاستنارة ومشاعل التحضر ونبضات القلوب كما حملناها في كل أزمنة الانتصارات لوأد الأمية وتشييع جثمانها إلى غير رجعة؟.. 
وبمناسبة بداية صيام رمضان والصوم الكبير يوم 11 مارس، فلتسارع المساجد لتذكير المؤمنين بآية "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".. ولتشدد الكنائس على رجوع أتباعها إلى آية "إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل، والمستهزئون يسرون بالاستهزاء، والحمقى يبغضون العلم"..
وفي النهاية، لي أمل ألا نلتقي خريج دورات "محو الأمية " فيخبرنا بكل فخر أنه انتهى حالًا من الدراسة في دورة "نحو الأمية"!