رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

49 سنة خلود.. ماذا كان ينتظر أم كلثوم فى القاهرة قبل عودتها من رحلة العلاج؟

أم كلثوم
أم كلثوم

ستظل سيرة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم مليئة بالأسرار والجوانب الخفية، وما دمنا نبحث فى عمق الزمان وصفحات أيامها سنجد دائمًا الجديد الذى يسعد عشاق فنها ومحبيها، فهى خالدة بفنها خلود الدهر فى عمر البقاءِ.. فى الذكرى التاسعة والأربعين لرحيلها نطرح وقائع مثيرة حدثت أثناء فترة علاجها فى واشنطن، من زاوية أخرى، وهى زاوية كانت قريبة منها كل القرب، وهى عين الكاتب الكبير مصطفى أمين.

 

 

 

نصف المأساة فى واشنطن

كان مصطفى أمين هو الصحفى الوحيد الذى ذهب لزيارتها ليطمئن عليها، وربما كان السبب الرئيسى للزيارة هو الخوف عليها من أن يتسرب إليها خبر الفاجعة التى تنتظرها فى القاهرة، ففى مقاله المنشور بمجلة آخر ساعة عدد ١٦ سبتمبر ١٩٥٣، والذى أرسله من واشنطن للمجلة أكد أن هناك مأساة شهدت واشنطن الفصل الأول منها، وهى أن هناك فاجعة تنتظر أم كلثوم، واشترك فى التمثيل السفير المصرى هناك وزوجته وأفراد السفارة المصرية والسفراء العرب وكل العرب فى أمريكا، والمأساة هى إخفاء خبر موت شقيقها خالد، فرغم رحيله منذ أكثر من شهرين وهى لا تعرف أنه قد مات، بل وستعود إلى القاهرة وهى تجهل أن شقيقها رحل عن الحياة.. وهذا ما أمر به فريق الأطباء المعالج لها فى مستشفى البحرية الأمريكية.

 

 

 

لن يتحملوا المسئولية

روى مصطفى أمين أنه اتصل منذ أكثر من شهرين بالدكتور أمين حسن الأستاذ بكلية الطب، وهو الطبيب الملازم لأم كلثوم فى علاجها، وأبلغه بوفاة شقيق أم كلثوم وعليه أن يتولى إبلاغها، وفجر الطبيب مفاجأة وقال إن أم كلثوم اتصلت مساء أمس بأخيها وتحدثت معه فى المساء وفى الصباح أسلم الروح.. واتصل الدكتور أمين بفريق أطباء «ثومة» ليستشيرهم ماذا يفعل، وبعد اجتماعهم قرروا أن مثل ذلك الخبر قد يقضى على حياة أم كلثوم وهى تعالج بالذرة، فلا بد أن تكون أعصابها هادئة تمامًا، ولا تسمع ما يصدمها، سواء كان خبرًا مفرحًا أو محزنًا.. ولهذا فإنهم لن يتحملوا المسئولية إن عرفت.. واستشار الدكتور أمين حسن سفير مصر الدكتور أحمد حسين، فأقر السفير رأى الأطباء بإخفاء النبأ عن أم كلثوم.

ورغم الاتفاق فقد بقيت عقبة.. وهى سعدية بنت أخت أم كلثوم، فقد كانت تقيم معها فى نفس الفندق.. ويجب أن تشترك سعدية فى المؤامرة لتخفى النبأ عن خالتها.. فخالد أيضًا خال سعدية وعندما تعلم بموته ستظهر آثار الصدمة عليها.. وأم كلثوم شديدة الذكاء، فسوف تعرف من خلال ما يطرأ على وجه سعدية.. وبدأت الخطة بدعوة سعدية على الغداء خارج الفندق وأبلغوها بالنبأ تدريجيًا فانهارت، وراح الموجودون يقصون عليها أوامر الأطباء، وعليها أن تخفى حزنها عن خالتها لتتمكن بدورها من منع أى وسيلة أو شخص يخبر أم كلثوم.. خصوصًا أنها كانت تقيم معها فى نفس الحجرة.

 

 

 

منع البرقيات والصحف

استطاعت سعدية أن تتمالك أعصابها وتعود إلى الفندق وقد غسلت وجهها ومسحت دموعها، وعندما سألتها أم كلثوم عن احمرار عينيها قالت إنها أصيبت بألم ووضعت قطرة لعلاجها.. وفى نفس الوقت أوقف الدكتور أمين حسن جميع التليفونات التى تتصل بغرفة أم كلثوم وأيضًا منع البرقيات والصحف المصرية عنها.. حتى السفارة المصرية بواشنطن صادرت البرقيات التى وصلت من مصر ومن البلاد الشرقية إلى «ثومة».. وكان من ضمنها برقية من الرئيس محمد نجيب وجمال عبدالناصر وصلاح سالم تعزى أم كلثوم فى شقيقها الوحيد.

 

 

 

مصر لم تنسها

كانت السيدة سعدية تترك أم كلثوم وتدخل إلى الحمام لتبكى ساعات طويلة، ثم تغسل وجهها وتخرج لتحدث خالتها وكأن شيئًا لم يحدث، ولكن أم كلثوم أحست أن هناك شيئًا غير عادى قد حدث.. فقد قالت لأصدقائها: يظهر إن مصر قد نسيتنى.. فقد كنت أتلقى عشرات المكالمات يوميًا من مصر، فتوقفت فجأة.. حتى الرسائل انقطعت تمامًا والصحف لم تعد تصلنى.. وأهلى أيضًا توقفوا عن الكتابة لى.. لم يستطع أحد أن يقول لأم كلثوم إن مصر لم تنسها.. لكن الرقباء فى مصر وأمريكا منعوا أن تصل إليها كلمة عزاء واحدة قد تقضى على حياتها.

 

 

 

مات أخى خالد

وذات يوم استيقظت أم كلثوم من نومها وخرجت إلى الدكتور أمين والسيدة سعدية وقالت لهما إن أخى خالد قد مات.. وبُهت الاثنان من المفاجأة.. كيف عرفت رغم الحصار المفروض حولها؟ وتنفس الاثنان الصعداء عندما قالت أم كلثوم: لقيت رأيت فى المنام إن أخى خالد قد مات، فقال لها الدكتور أمين وهو يغالب دموعه: معنى هذا أن خالد سيعيش طويلًا.. ولكن أم كلثوم قالت: اطلبوا مصر، أريد أن أتحدث مع خالد فى التليفون، وتجمد الاثنان فى مقعديهما.. كيف يتصرفان؟ ولم تنتظر أم كلثوم منهما ردًا، فقد أمسكت بالسماعة وطلبت شقيقها فى مصر، وأسرع الدكتور أمين إلى عاملة التليفون ليطلب منها إلغاء المكالمة وأن تخبر «ثومة» بأن الخطوط بين مصر وأمريكا معطلة.. واشتركت الموظفة فى المؤامرة، فكلما طلبت «ثومة» مكالمة أجابتها بنفس الرد، حتى طلب منها الرقباء بأن تخبر أم كلثوم بأن خالد يقضى الصيف فى رأس البر ولا توجد وسيلة للوصول إليه.. حتى صدقت أم كلثوم الأكذوبة.. وكلما دق جرس التليفون هرول إليه الرقباء، حتى لو اقترب شخص غريب من أم كلثوم أحاطوا به حتى لا يسرب إليها الخبر.. وشكرتهم على تلك العناية وهى لا تعلم سببها.. وذات يوم دُعيت لتناول العشاء على مائدة السفير المصرى فى أمريكا، وكان الموجودون هم موظفى السفارة وزوجاتهم.. وفجأة وبغير مناسبة، راحت أم كلثوم تتحدث عن شقيقها خالد وحبها لها وأنه كل شىء لها فى الحياة.. وإنها لم تتزوج ولم ترزق بأطفال، وهى تشعر بأنه أبوها وابنها وكل شىء لها فى الحياة.. وراحت تروى حكاياته ونوادره معها منذ أيام الطفولة.. والسيدات المصريات يغالبن دموعهن وشهقاتهن، فكل من يجلس على المائدة يعرف أن خالد قد مات.. ما عدا أخت خالد نفسها.. ومرت الليلة بسلام.

وبعد فترة اتصلت أسرة أم كلثوم بالدكتور أمين حسن، وأبلغوه أنهم علموا أن العلاج قد انتهى، ولم يبق للذرة أثر فى جسم أم كلثوم، ويرون أنه من الأفضل أن تعلم «ثومة» بالفاجعة وهى فى واشنطن، حتى إذا حدث لها شىء أسعفها وعالجها الأطباء هناك.. وعرض الدكتور الأمر على الأطباء الذين أكدوا أن أم كلثوم قد شفيت تمامًا وأنها قادرة على تحمل الصدمة، فالصدمة لن تعالج بإسعاف طبى فى أمريكا، بل تداوى بإسعاف معنوى من الأهل والأصدقاء فى مصر.. وأخبروا الدكتور أمين حسن أن أم كلثوم ثروة وطنية، كلما تأخر عنها الخبر كان هذا ضمانًا بألا تبدد تلك الثروة الوطنية، وأجمعوا أن تعرف «ثومة» الخبر فى القاهرة.. وأوصوا بألا يستقبلها أفراد أسرتها بملابس الحداد، ومن الأفضل ألا يذهبوا إلى المطار، وإن ذهبوا فعليهم إخفاء كل معالم الحزن عنها حتى لا تكون الصدمة شديدة فى مطار القاهرة.

 

 

 

إلا أم كلثوم

جلست أم كلثوم قبل عودتها إلى القاهرة بأسبوع فى مطعم النورماندى فارم لتناول الغداء مع الدكتور أحمد حسين سفير مصر والدكتور عبدالجليل العمرى وزير المالية والدكتور زكى سعد محافظ البنك الدولى.. تتكلم عن عودتها إلى مصر وقالت: أريد أن أعود سريعًا إلى مصر، أشعر أننى شُفيت تمامًا وأن أيام عذابى قد انتهت.. أعرف أن السعادة تنتظرنى فى مصر.. لم أعد أبكى كما كنت أفعل أثناء مرضى.. زالت الآلام التى كانت تشقينى، أريد أن أعود سريعًا إلى مصر.. ولم يقل واحد منهم شيئًا.. لأنه جميعًا يعلمون أن هناك فاجعة تنتظرها فى مصر.. هم جميعًا وكل العالم يعرف بأمر فاجعتها.. إلا هى.

بعد ستة أيام حزمت أم كلثوم أمتعتها وركبت الطائرة لتعود إلى مصر سعيدة بشفائها.. فهل حدث الفصل الثانى من المأساة فى القاهرة؟.. وكيف علمت بالحدث؟.. ومن واتته الجرأة ليخبرها به؟.. وكيف أصبحت حالتها؟.. ومن كان فى استقبالها فى مطار القاهرة؟.. كل تلك الأسرار والتفاصيل نجيب عنها فى مقالنا التالى «كواليس عودة أم كلثوم من رحلة العلاج».