رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضآلتنا أمام سطوة التكنولوجيا

«العقل»، هو شرف الرجل وكرامته وحريته.. «العقل»، هو شرف المرأة وكرامتها وحريتها. إنه القصة كلها وراء وجودنا الإنسانى، وارتقائه عبر الأزمنة. 

«العقل»، يفتح الأبواب المعصلجة، ينير الدروب المعتمة، يصحح الأخطاء، يهزم الخرافات، يعرى الأكاذيب، يعمر الأرض الخراب. 

«العقل»، كلمة السِر التى تكشف الأسرار، وتتنبأ بالمفاجآت، يقفز فوق أعلى الحواجز، يشفى هشاشة النفوس، يعالج داء الجسد. لا يعترف بالمستحيل، شعاره «ولِم لا». فكل شىء بين يديه ممكن، وجائز. 

والإنسان رجلًا كان أم امرأة، يستطيع مواصلة الحياة، إذا فقد المال، والأحباب، والأصدقاء، والوطن. لكنه لا يستطيع مواصلة الحياة، إذا فقد عقله. 

فى عام 2013، كان عدد المجانين والمختلين عقليًا فى العالم ٣٥٫٦ مليون شخص، يصلون فى عام 2030 إلى ٦٥٫٧ مليون، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية.

عندما نقول إن فلانًا «فقد عقله»، يعنى أنه دخل قائمة «المجانين»، رسميًا، الذين لا يميزون بين الواقع والخيال، ويعجزون عن التحكم فى إرادتهم وتفكيرهم وتصرفاتهم، وبالتالى يشكلون خطرًا على أنفسهم وعلى الآخرين، ويجب إبقاؤهم بعيدًا، عمنْ نصفهم بـ«العقلاء». 

من تجاربى وتأملاتى، أدركت أن المقياس العلمى الطبى، لتحديد الاختلال العقلى، أو الجنون، ليس دقيقًا، بما يكفى. وفى حياتنا المعاصرة الأكثر تعقيدًا، وغموضًا، وتشابكًا، تزداد ضرورة تعميق مقاييس فقد العقل، ومعايير العجز عن التحكم فى سلوكياتنا، وإرادتنا، وإعادة تعريف الواقع والخيال، وآليات التمييز بينهما. 

وأصبح واضحًا لى، أن غالبية منْ نصفهم بالبشر «العقلاء»، الذى ينطبق عليهم التعريف التقليدى للصحة العقلية، ويعيشون طلقاء خارج المصحات والمستشفيات، هم فى الحقيقة، قد فقدوا عقولهم، منذ ولادتهم. وهم يشكلون بالفعل، خطرًا على أنفسهم، وعلى الآخرين، ويحتاجون إلى الشفقة، قبل العلاج وإعادة التأهيل. وقبل الشفقة والعلاج وإعادة التأهيل، يحتاجون إلى الوعى بأنهم فقدوا عقولهم، دون علم منهم. 

أقر بكل ثقة أن «الصحة العقلية»، ظاهرة استثنائية، لا يتمتع بها إلا قلة قليلة، من سكان كوكب الأرض. بل هى، إن شئنا الحقيقة والدقة «غير موجودة». 

سكان الأرض، يتعرضون منذ الولادة، حتى الموت، إلى عمليات مخططة، مدروسة بعناية، ومتجددة مع الزمن، «للسطو» الناعم بقفازات حريرية، على أجمل، وأغلى، ما يملكونه «العقل». 

منذ أن تم إنشاؤها، وتأسيسها، وتطورها عبر الأزمنة، اختلفت المجتمعات فى كل الأشياء، لكنها اتفقت على شىء واحد، أن تتكاثر وتتناسل، لتعيد إنتاج المواطنات والمواطنين المنتمين للقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية «السائدة» المرضى عنها. وبالطبع هذا غير ممكن، إلا إذا تعاونت وتضامنت وتحالفت جميع جبهات المجتمع، مؤسساته، ومنابره، ومنصاته، وقوانينه، وتشريعاته، فى خلق «الحماية» الشاملة المتكاملة، لتلك القيم السائدة. 

منذ خروج المولود أنثى أو ذكرًا، إلى العالم، تتلقفه أول وأهم خيوط الشبكة، وهى الأسرة لمدة لا تقل عن خمس سنوات، قبل الحضانة والمدرسة، تقع الطفلة أو الطفل، أسير التعليمات والنواهى والواجبات والأوامر والقواعد، التى تضع اللبنة الأولى فى بنيان أسمنتى هائل، اسمه «الطاعة». وبالطبع ينهزم الطفل الضعيف، المجرد من كل أسلحة الدفاع عن النفس، المعتمد كليًا على الأب والأم. وإذا جرب مرة المخاطرة بعدم الطاعة، يكون مصيره العقاب بالزعيق أو الضرب أو الحرمان من أشياء يحبها، وإذا تكررت، سوف يوصف بالطفل المشاكس، أو الطفلة المتمردة. وكلنا نعرف فى الإنجليزية تعبير «الخروف الأسود فى العائلة». ويعنى الفرد غير المنسجم مع بقية الأعضاء، الذى استطاع مقاومة هذا الاحتلال المقنن، والمشروع. 

هكذا يتم بنجاح، تمهيد التربة لزراعة منْ يُطلقون عليه «المواطن الصالح»، و «المواطنة الصالحة». 

هكذا تم «اغتصاب» العقل، و«إخصاء» قدراته، و«تختين» ملكاته، فيصبح مجرد عضو موجود فى أعلى الرأس، فاقدًا الحيوية المبدعة، والخصوبة الفكرية، مشابها لملايين العقول. 

ومن خلال الشغل المخلص، والنشاط الدءوب للمؤسسات التعليمية، والدينية، بالتنسيق مع المؤسسات الثقافية والترفيهية، والإعلامية، تكتمل جميع حلقات السلسلة الحديدية، التى «تكلبش» ملايين العقول، و«تمتص» خيراتها. 

هل يمكننا القول إن الملايين، بل المليارات من البشر، ضحايا السطو على العقول، يتمتعون بالصحة العقلية؟ 

رأيى الشخصى أن «تنازل» الإنسان، عن عقله، عن سهو، أو عن عمد، يضرب جوهريًا وبالضرورة، الصحة العقلية فى مقتل. وتجعله بشكل أو بآخر، عاجزًا عن التحكم فى تصرفاته وانفعالاته.

ويبدو هذا فى السلوكيات المنحرفة، فى حالات الانتحار، وفى الجرائم البشعة، وفى ممارسات العنف المبالغ فيه، وفى العدوانية غير المبررة، التى تنفجر فجأة فى لحظة. 

من النظرة الأولى، والسطحية، يُقال إنها لحظة «جنون»، ولكن بالنظرة المتعمقة، نكتشف أنها كانت ربما اللحظة الوحيدة «العاقلة»، فى حياة الشخص. فى لحظة، تتمزق كل الأقنعة، ويدرك الأوهام والخدع والزيف، والسطو، الذى تعرض له. بعض الناس لا يحتملون مواجهة الحقيقة، ولا يستطيعون «التكيف» كما كانوا يفعلون طوال حياتهم. 

قالوا لنا إن الصحة النفسية، تقاس بالقدرة على العمل، والقدرة على الحب. لكن القضية كما أراها، هى الإطار الثقافى والقيمى، الذى يتم فيه العمل، أو الحب. 

السائد ثقافيًا فى الحضارة العالمية المعاصرة، أن النجاح فى العمل، يعنى «عمل فلوس»، والحب يعنى علاقات عاطفية، تتماشى مع الثقافة السائدة، التى تعتمد على تبادل الاحتياجات الجنسية والمالية، واقتسام المناخ غير الصحى، وعلاقات التملك والاستغلال والاستعلاء الذكورى، والعقد النفسية، وتكوين أسرة، وإنجاب أطفال، يطابقون «كتالوج» المواطن الصالح، والمواطنة الصالحة. 

كيف لا تختل عقولنا، ونحن نعيش فى حضارة تقول لنا كل يوم، منذ استياقظنا حتى نومنا، إن إنسانيتنا، ومواهبنا، وأفكارنا، وإبداعاتنا، واختياراتنا، وأحلامنا، من الأفضل إلقاؤها فى القمامة، إذا لم تدر علينا المال الوفير؟ 

كيف نحتفظ بنظافة ونقاء وهدوء عقولنا، فى حضارة صاخبة، ملوثة بالدم والعنف والإرهاب؟ 

كيف لا نُجن، ومواصفات الجمال تطردنا، وشروط الجاذبية تنبذنا، وسطوة التكنولوجيا تستعبدنا؟

نشعر كل يوم، بضآلتنا، وتفاهتنا، وضعفنا، وعدم جدوانا، أمام المبانى الشاهقة، والمنتجعات الفاخرة، والشركات العملاقة، وصفقات المليارديات، وطموحات الذكاء الاصطناعى، والتمويلات الخيالية لأنشطة ترسخ التفرقة والعنصرية والقيم الفاسدة، وإعلانات تبيع لنا، ما لسنا نحتاجه. 

هذه الحضارة على كوكب الأرض، «مجنونة» من الجذور، حتى النخاع. وكلنا بالضرورة، بدرجات وأشكال متباينة، يسكننا عطب ما فى عقولنا. 

من بستان قصائدى 
----------------------------  
النساء يبحثن عن شريك الحياة 
وأنا أبحث عن شريك الموت