رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اختراع الشعر وترجمته

انشغل المترجمون العرب منذ ثمانينيات القرن الماضى بترجمة الروايات وكتب السياسيين وتجاهلوا الشعر تمامًا، وظهرت أجيال فى الثقافات الأخرى لا نعرف عنها شيئًا، وكأننا معزولون عن العالم، عدم ترجمة الشعر العالمى حاليًا له عدة أسباب، أهمها عزوف الناشرين عن نشره، وأيضًا ضعف العائد المادى الذى يتحصل عليه المترجم المحترف، بالإضافة إلى تراجع الذائقة الثقافية للغالبية العظمى من المترجمين والناشرين، والشعر المترجم يعانى فى مصر كما يعانى الشعر العربى الحديث، لا حماس لنشره إلا إذا دفع الشاعر تكاليف الطباعة، ولم يتبق للشعراء منابر تهتم بنشر أعمالهم إلا مطبوعات وزارة الثقافة، التى تصدر عن الهيئة العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة. لم نتعرف منذ زمن بعيد على شعراء جدد، واكتفينا بما تمت ترجمته فى أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضى، لشعراء ارتبطوا بحركات تحرر مثل: لوركا وبابلو نيرودا وناظم حكمت، أو لشعراء ارتبطوا بمصر مثل: كفافيس اليونانى وأونجاريتى الإيطالى، أو المواهب الكبيرة التى لا يمكن تجاهلها مثل: رامبو الفرنسى وريستوس اليونانى وبوشكين الروسى وآخرين. وتصدى لترجمة هؤلاء قامات كبيرة، وتوقفت المطابع عن إعادة إصدار هذه الأعمال أيضًا، لأننا لسنا فى زمن الشعر، ووسط هذه العزلة تخرج بين الحين والآخر أعمال تشعرك بالسعادة، مثل: المختارات التى صدرت للشاعر الأردى أفضال أحمد سيد تحت اسم «اخترعت الشعر» عن سلسلة آفاق عالمية التى يرأس تحريرها الدكتور أنور إبراهيم وتصدر عن هيئة قصور الثقافة، ترجم المختارات هانى السعيد بلغة رائقة، تتسق مع شاعر يكتب فى لغته قصيدة النثر، وعانى كما عانى كتابها فى مصر من أصحاب الذوق المحافظ واليقين الغشيم. أفضال أحمد سيد شاعر ومترجم «عن الإنجليزية والفارسية» وهو أوائل من ترجموا لماركيز وجان جينيه فى اللغة الأردية، كما ترجم عن الفارسية أعمال الشاعر الكبير «مير تقى مير» الكاملة، ومختارات لـ«بيدل» الكبير الآخر. أفضال من مواليد ١٩٤٦، أى ينتمى لجيل السبعينيات الشعرى، بدأ كتابة الشعر سنة ١٩٧٦ وأصدر عدة مجموعات شعرية بينها: تاريخ منتحل «قصيدة نثر»، خيمة سوداء «غزليات»، الإعدام فى لغتين «نثر»، ولد فى «غازى بور» وكانت تابعة للهند «قبل تقسيم الهند وباكستان سنة ١٩٤٧»، وتلقى تعليمه فى مدينة دكا البنغالية «قبل تقسيم باكستان وبنجلاديش»، درس أفضال سيد أحمد علم الحشرات فى الجامعة الأمريكية فى بيروت بين عامى ١٩٧٤و١٩٧٦، وشهد الحرب الأهلية اللبنانية. والمتأمل سيرته سيكتشف أنه شخص ولد بالهند فانقسمت الهند وباكستان بعد ميلاده بعام، ثم انتقلت أسرته به من الهند إلى مدينة دكا الباكستانية فانقسمت باكستان إلى باكستان وبنجلاديش، هو أستاذ جامعى أيضًا ومتزوج من شاعرة بارزة هى «تنوير أنجم» ويعيش فى كراتشى، عبّر عن فرحته بترجمة مختارات من شعره فى مقدمة الكتاب، وتحدث عن أثر الثقافة العربية عليه وعلى مسلمى شبه القارة الهندية، ويتذكر مصر التى زارها مرتين بكل خير، وقال إن منظر تلاقى البحر مع النهر فى دمياط لا يمكن أن يُنسى، يقول فى قصيدته التى يحمل الكتاب اسمها «اخترع المغاربة الورق.. الفينيقيون الحروف.. واخترعت أنا الشعر. اخترع حفارو القبور الفرن.. صمم محتلو الفرن تذكرة الخبز.. اخترع متناولو الخبز الطابور.. وتجمعوا فتعلموا الغناء.. عندما أتى النمل أيضًا، واصطف فى طابور الخبز. اخترعت المجاعة.. اخترع بائعو التوت دودة القز.. صمم الشعر من الحرير ملابس للبنات.. للبنات اللابسة الحرير اخترع السماسرة القصر.. أينما حلوا دلوا على دودة القز.. اخترعت المسافة قوائم الخيل الأربعة.. صنعت السرعة العجلة الحربية.. وعندما اخترعت الهزيمة.. ألقيت أنا أمام العجلة الحربية السريعة».

شاعر مختلف وترجمة رائقة وشعر يشير إلى منطقة مجهولة ثقافيًا بالنسبة لنا، الديوان عبّر عن رحلة الشاعر مع الشعر، وأظهر تنوع اهتماماته، ولكنه يكون فى أفضل حالاته حين يبحث عن جوهر الشعر، فى قصيدته «باقة ورد وباقة دعوة» يقول: «نحن الذين نصل إلى الحفلات الموسيقية بلا باقة ورد للموسيقار.. ولا نعرف كم عدد قوائم البيانو.. نحن الذين حين يرانا أحد لا يشير لنا ناحية أى مقعد خالٍ.. نحن الذين نقف جنب الحائط حيثما يتم إيقافنا فى النهاية.. من الكلافيكورد إلى البيانو مرت الموسيقى برحلة طويلة مثلما وصلنا بأنفسنا بلا بطاقة دعوة.. من البوابة الكبيرة إلى الحائط الأخير.. بعد مقدمته.. ينحنى الموسيقار فى امتنان.. سيتراءى له الآن دم على الأرضية.. دمنا الذى يصل قبلنا إلى كل مكان بلا باقة ورد وبطاقة دعوة».