رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بيت فى المدينة يطمح أن يكون ريفيًا

بعد رحيل الشاعر الكبير والصديق الحبيب عبدالرحمن الأبنودى «١٩٣٨- ٢٠١٥» بأسابيع اتصلت بى السيدة نهال كمال، زوجته العزيزة، لتبشرنى بعثورها على خمسة مقالات لم يتم نشرها، وأن اسمى مذكور فى أحدها، كنت فى هذا الوقت مسئولًا فى جريدة الأهرام، ودعمنى الخال بالنشر معى تحقيق عن ابن عروس الذى نُشر على مدار عشرة أسابيع، ونشر أكثر من مرة قصائد وطنية جديدة بعد الإطاحة بالإخوان، فى الوقت نفسه كان ينشر يوميات الأخبار مرتين فى الشهر، وتأكدت أن هذه المقالات تخص الأخبار، وهى لم تكن تعرف أحدًا هناك، اتصلتُ بالصديق العزيز الراحل ياسر رزق، الذى فرح بالمفاجأة واتصل بالإعلامية الكبيرة، وتم النشر. أول هذه المقالات كان عن الشعر، بدأه بأن الناس دائمًا يذكرون عن عبدالرحمن الأبنودى فى سياقات غريبة، سافر، تزوج، طلق، باع، اشترى.. وما إلى ذلك، ولم يتحدث أحد عن عبدالرحمن الشاعر، وقرر أن يعرّف نفسه من جديد وعن بداياته وأساتذته، وهو الشاعر الذى لا مثيل لرقته وموهبته ومفاجآته وحنوه. تذكرت هذه الواقعة وأنا أقرأ نصيحة الأرجنتينى بورخيس العظيم بأن «تبدأ بتقبّل هزائمك مع رأس مرفوع وعينين مفتوحتين بسموِّ امرأة وليس بحزن طفل، وتتعلم بناء كُلّ دروبك على يومك الحاضر لأن أرض الغد غير جديرة بالثقة بالنسبة إلى الخُطى، بعد فترة تتعلم أن حتى أشعة الشمس تَحرق إذا بالغت فى الاقتراب لذا تقوم بزرع حديقتك وتُزيّن روحك بدلًا من انتظار شخص ما ليحضر لك الزهور، وتتعلم أن بمقدورك حقًا الاحتمال.. أنك حقًا قوى وأنك تطوى قيمتك بداخلك وتتعلم وتتعلم، مع كل وداع تتعلم»، وقلت لنفسى، ولأننا على أبواب معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى ألتقى فيه أصدقائى الشعراء، لماذا لا أفعل مثل صاحب «الفصول»، رغم أننى لم أتورط فى التنظير عن الشعر أو الحديث عن نفسى من قبل، حين أصدرت ديوانى الأول «تفاصيل» سنة ١٩٨٨ لم أكن مشغولًا بقصيدة السبعينيين أو بأى شىء آخر، كنت أفكر بالطريقة التى كنت أكتب بها، ولا أريد تجاوز قصيدة أحد، فقط أريد التعبير عن نفسى وعن تصوراتى البسيطة عن ماهية الشعر. «تفاصيل» لا يمثل ٢٠٪ من القصائد التى كتبتها ونشرتها خلال السنوات الخمس التى سبقت صدوره، فهناك قصائد استبعدتها لأنها كانت مشغولة بالأفكار أو غارقة فى الإيقاعات وغوايتها، وأيضًا ظلال قصيدة السبعينيات، وحين شرعت فى ترتيب أول عمل لى آثرت أن أنتقى ما يشبهنى ويعبر عن حساسية زمنى وجيلى، ولأننى أتمنى عقد صداقة مع القارئ الذى لم تهتم به قصيدة السبعينيين، وأنا متفهم أزمة هؤلاء ومحاولاتهم فى التجريب والتنظير، ولكننى تمنيت ألا أكتب مثلهم.

والكتابة عندى تأتى دون ترتيب، ولا تصورات مسبقة عن الشعر، يأتى الشعر لحاجة «ما» لا أستطيع توصيفها، هذه الحاجة تجعلنى متوازنًا وتشعرنى بأن لحياتى معنى. لم أفكر فى منافسة أحد، وأسعد بتجارب الآخرين، وبالتنوع فى الشعر الجديد فى مصر، وفى كل الأماكن التى أعمل بها أفسح المجال للآخرين، وأفرح بقصائدهم كأنها تخصنى، أما أصحاب اليقين فأنا أشفق عليهم لأنهم اكتشفوا، أو فى طريقهم لاكتشاف، أنهم أهدروا أعمارهم فى معامل ومختبرات، وأن قصائدهم مهما ارتفع صوتهم على المنصات لن تصمد أمام الشعر الصادق، الذى يعبر عن الخلل الذى أصاب البشرية. الشعر ليس بيانًا، وليس منشورًا سياسيًا، وليس استعراض ثقافة وقراءات، وليس وجاهة اجتماعية، الشعر حاجة إنسانية ملحة، ولولاه- بالنسبة لى على الأقل- لكان مصير البشرية أسوأ مما هى عليه. لا توجد غنائم يحصل عليها الشاعر الجديد، ولكنه مُطالب بالتعبير عن اللحظة التى وجد فيها، بعيد عن اللغة المقدسة والأفكار المقدسة، والتخلى عن صورة الشاعر القديم الذى عبر عن زمن آخر، ويستند السلفيون والسياسيون إلى حكمه الجاهزة. الشاعر الجديد يخوض معركة عظيمة الآن، حتى لو تجاهلها النقاد الرسميون، لأن هذا الشاعر يخوض معركة الحداثة الحقيقية دون تعليمات، نجح فى جعل اللغة الجميلة لغة علمانية رائقة، يخوض معركة الخيال. صديق شاعر كتب أننى أكتب القصيدة الهشة التى تستخدم لغة شديدة البساطة، قلت له إن الإيغال فى التعقيد أسهل ما يكون، البساطة تحتاج عملًا شاقًا، بدليل قلة أعمالى، أن أعمل على قصيدة عشرة سطور فى شهر أو يزيد، الروافد التى شكلت حياتى كلها تتسم بالبساطة، ومبنية على عدم الثرثرة، أما البناء فأنا لا أفكر فيه بشكل مسبق، كل قصيدة تقوم ببناء نفسها، ولا أملك مهارات البنائين الكبار. قصيدتى مثلى تعيش فى بيت يطمح أن يكون ريفيًا حتى لو كان فى المدينة، بيت يحتوى على الأثاث الضرورى فقط لكى أنام وأتمدد أمام التليفزيون.