رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أعيان حارتنا

كواباتا.. كبير كُتاب اليابان.. الباحث عن تجميل الموت

فى حيثياتها لاختيار أديب اليابان الأكبر ياسونارى كواباتا للفوز بجائزة الأدب عام 1968، قالت لجنة جائزة «نوبل» إنه تم منحها له «لبراعته السردية التى تعبر بحساسية عظيمة عن جوهر العقل اليابانى»، ولفت «دليل الأدب العالمى الحديث» النظر إلى أن كاواباتا أدرك وجه التشابه بين الانتقال من موضوع إلى آخر من الشعر اليابانى، وفى الأساليب الأوروبية الحديثة، وأنه نجح فى استيعاب هذه الأساليب عبر المزيد من التأمل والتدقيق، واستمد جانبًا كبيرًا من جماليات إبداعه من التيارات التى راجت بعد الحرب العالمية الأولى كالتعبيرية والتكعيبية، طبقًا لدائرة المعارف البريطانية، لكن هناك من يقول عكس ذلك، مؤكدًا أن كاواباتا هو رجل الدعوة إلى التمسك بكل ما هو قديم.. 

وقال معاصره الروائى اليابانى ذائع الصيت، يوكيو ميشيما، فى كتاب صدر تحت إشرافه عام 1958 بعنوان «ياسونارى كاواباتا»: «إن السيد كاواباتا كما يعرف الجميع، كاتب عظيم له أسلوب متفرد، لكننى أعتقد أنه بصفة نهائية، روائى بلا أسلوب، لأن الأسلوب بالنسبة للروائى يعنى إرادة تفسير العالم واكتشاف مفاتيحه، والروائى ليست لديه أداة غير الأسلوب لترتيب العالم، وفصله، وإخراجه من الفوضى، ومن العماء إلى الإطار الضيق للشكل.. 

ما هو إذن؟ 

العمل الفنى، مثل غالبية الأعمال الرائعة لكاواباتا، التى هى الكمال نفسه، تخلت عن إرادة تفسير العالم على مثل هذا النحو، إنه لا يخشى فوضى ولا عماء، ولكن تجرده من الخشية يشبه تجرد خيط حريرى معلق فى الفراغ، إنه النقيض الأقصى نأيًا للإرادة المبدعة للنحاتين اليونانيين القدامى الذين كرسوا أنفسهم لصمود الرخام، إنه المقابل المفارق للخشية التى يحاربها فن النحت اليونانى القديم المتجانس بكل كيانه.»

وفى مقدمة ترجمته لمجموعة «قصص بحجم راحة اليد» لكاواباتا، يقول الباحث والمترجم كامل يوسف حسين: هذه المجموعة فى جوهرها، قالب إبداعى أقرب إلى أن يكون المعادل النثرى لقصائد «الرينجا» اليابانية، تلك القصائد القائمة على الارتباط والامتداد»، فيما يذهب جى مارتن هولمان، الذى ترجم عددًا كبيرًا من أعمال كاواباتا إلى الإنجليزية، إلى القول عن ذات المجموعة: إنها الوحدة الأساسية للتأليف عند كاواباتا، والتى بنيت عليها أعماله الأكثر طولًا واستفاضة، وقد يكون هذا المبدع اليابانى، فى قرارة نفسه، كاتبًا لهذا اللون من الإبداع فى المقام الأول».

أما كاواباتا نفسه ففى خطابه لقبول جائزة نوبل، جعل عنوان محاضرته هو «اليابان.. الجميلة وأنا»، وتعمد أن يسلط الضوء على الروابط بين كتاباته، وبين ثقافة اليابان التقليدية، بما فيها طقوس تقديم الشاى على وجه الخصوص، كما شدد على أنه عاش يحاول تجميل الموت، والسعى وراء التناسق والتناغم ما بين الإنسان والطبيعة والفراغ، موضحًا أنه ناضل من أجل الجمال طوال عمره، وقال: «هناك ثلاث مجموعات من البشر هى وحدها التى يمكنها توليد الجمال الخالص، وهى على التوالى: الأطفال الصغار، والنسوة الشابات، والرجال المحتضرون.. وهى العملية التى يتعين على الأدب القيام بوظيفة تسجيلها»

كواباتا محاط بالصحفيين بعد فوزه بجائزة نوبل

اقتبس كاواباتا فى محاضرته من الأدب اليابانى الكلاسيكى، ومن أقوال شخصيات دينية بارزة، بينما كان يناقش الحس الجمالى فى ثقافة اليابان، وإبراز الطبيعة الأساسية لكتاباته فيما يتعلق بتلك الثقافة، وقيل إن كاواباتا كان يفكر فى حفل الشاى وهو يكتب خطابه، فقد عرف الجمهور كيف أن غرفة الشاى المحصورة فى مساحة محددة، يمكن أن تضم فضاءً لا حدود له، وكيف يتم تزيينها ببرعم واحد من زهرة الكاميليا أو الفاوانيا، ووصف آنية الشاى المبللة بما يمنحها توهجًا ناعمًا، وقال: «ينظر ممارسو طقوس تقديم الشاى إلى اللقاءات أثناء احتفالات الشاى على أنها تحدث مرة واحدة ولا تتكرر أبدًا، ويقومون باستعدادات دقيقة لزيادة متعة الحدث.. إنهم يزينون الغرفة بلفائف معلقة، تحوى كتابات مخططة من قبل كهنة الزينة، أو أجزاءً من لفائف صور وقصائد، ويهتمون باختيار أوانى الشاى التى تتناسب مع الموسم والفعالية، وترتيبها على الأرض للضيوف».. وعلى غرار ذلك، زيّن كاواباتا محاضرته بمقتطفات شعرية كلاسيكية متنوعة، فضلًا عن شرح مقدمة عن عالم الشاى، ذلك العالم الذى يرى كثيرون أنه البطل الحقيقى لرواية «سرب طيور بيضاء»، حيث تتواصل حياة الأجيال، وعلاقاتها الغرامية، وأفراحها وأحزانها، عبر أقداح الشاى.

"قصص بحجم راحة اليد"

فى الخطاب نفسه يقول كاواباتا: «الثلج، القمر، البراعم.. تلك كلمات تعبر عن الفصول، فيما هى تنداح مفضية أحدها إلى الآخر، وهى تشتمل فى التقاليد اليابانية على الجبال والأنهار والأعشاب والأشجار، وتجليات الطبيعة الوافرة، والمشاعر الإنسانية كذلك».. وربما كان هذا، بحسب كامل يوسف حسين، هو السبب فى اتفاق غالبية النقاد على أن هذه القدرة على تجاوز الفواصل بين المجال الإنسانى، وبين مجالات الطبيعة، هى السمة الفاتنة والمميزة لكتابات كاواباتا، وهى تلك التى تبرز بصفة خاصة فى عدد من أعماله المتألقة، وفى مقدمتها روايتاه «بلد الثلوج»، و«ضجيج الجبل»، إلى جانب الكثير من قصص مجموعته «قصص بحجم راحة اليد»، تلك التى تكشف عن عبقرية شعرية أصيلة فى توصيف الإنسان، من خلال التبدلات المراوغة للنباتات، والمخلوقات، ومشاهد الطبيعة الشتوية السابحة فى ألوان الحمرة، كترجمة لتأجج العواطف، واشتعالها.

ويقول حسين: كل من قرأ كاواباتا بحب وتعاطف، لا بد أنه لاحظ أن الرجال والنساء فى أعماله ينتمون إلى حقول مغناطيسية متعارضة، لا يمكنها الالتقاء، فبغض النظر عن قوة اعتقاد الطرفين بالرغبة فى الارتباط فيما بينهما، فإن شيئًا ما، يوشك أن يكون جوهريًا، وينتمى إلى الطبيعة الأساسية لكل منهما، يدفع كل محب منهما بعيدًا عمن يهوى، فيقود إلى استحالة الاستحواذ، أو الرغبة غير الواعية فى أن ينفرد المرء بنفسه، وهو ما يظهر بقوة فى كثير من الشخصيات النسائية التى رسمها أو عبر عنها فى أعماله.. ولهذا تجد أن يوكو فى رواية «بلد الثلوج» تحافظ على حالة انجذابها لشيمامورا، بطل الرواية، لأنه ليس بمقدوره أن يحظى بها أبدًا، وهو ما نراه أيضًا فى رواية «ضجيج الجبل»، إذ تحافظ كيوكو على نقائها، وعلى انجذاب شينجو إليها.. لأنها زوجة ابنه.

إحدى ترجمات روايته “ضجيج الجبل”

وربما كان التصوير الأقوى لتلك الحالة من استحالة الاستحواذ، والعكوف الوحشى على الذات، هو ما نراه فى رواية «منزل الجميلات النائمات»، عندما يعبر ايجوشو العجوز إلى تلك المنطقة الرمادية السابقة مباشرة على فقدانه لقدرته الجنسية، ويتمكن بنصيحة من صديقه، من القيام بخمس زيارات إلى تلك الدار التى يلتقى فيها بشابات فى مقتبل العمر، فإنه يلتقى بهن، ولكن بعد أن يتم تخديرهن، فيفقدن القدرة على الشعور بما يحدث من حولهن، وهكذا يتم اللقاء ولا يتم، وتصل الرغبة فى الاستحواذ على تلك الشابة الفاتنة إلى حائط المستحيل.

أغلب ظنى أنه من المناسب هنا الإشارة إلى بعض المكونات التى لعبت الدور الأكبر فى مسيرة كاتب اليابان الأكبر، ياسونارى كاواباتا، إذ لعبت حياته طفلًا، الدور الأكثر حضورًا فى أعماله ومسارات حياته، وربما كانت السبب المباشر فى أن يُطلق عليه لقب «سيد المراثى»، و«سيد الجنائز» و«المحب للعزلة»، فالمعروف أن كاواباتا ولد فى أوساكا فى الرابع عشر من يونيو عام ١٨٩٩، وخطف الموت والديه وهو فى عامه الثانى، فانتقل للحياة مع جديه لأبيه، بينما ذهبت أخته الكبرى للحياة مع عمته، وفى عامه السابع توفيت جدته، ثم لحقت بها أخته الكبرى وهو فى العاشرة من عمره، وجده لأبيه وهو فى الخامسة عشرة، ليضطر إلى الانتقال للحياة مع عائلة والدته، قبل أن ينتقل للحياة ببيت داخلى بالقرب من المدرسة الثانوية.. مسيرة محاطة بالفقد المستمر، موت ووحدة وجنائز لا تنتهى فى أقل من خمس عشرة عامًا، تركت أثرا عميقًا فى نفسه، وحالت دون أن يعيش طفولة طبيعية، وكان دائم التحدث عنها وعن وحدته، واصفًا حياته بأنه عاش مثل طفل بلا منزل أو أسرة، فظهرت ملامح كثيرة من جراح طفولته، فى العديد من رواياته وقصصه القصيرة.

نشر قصصه الأولى وهو فى جامعة طوكيو بمجلة «اتجاهات الفكر الجديدة» التى أعاد إصدارها بعد توقف لأكثر من أربع سنوات، وبالإضافة إلى الكتابة الأدبية، عمل كمراسل لصحيفة «ماينيتشى شيمبون»، ورفض المشاركة فى التعبئة العسكرية التى رافقت الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهاء الحرب بوقت قصير قال إنه لن يستطيع أن يكتب إلا المراثى.

وخلال سنواته فى الجامعة بدل اختصاصه إلى الأدب اليابانى، وكتب أطروحة تخرج بعنوان «تاريخ موجز للروايات اليابانية»، وتخرج فى الكلية فى مارس ١٩٢٤، وفى أكتوبر ١٩٢٤ بدأ كاواباتا، ويوكو ميتسو ريتشى مع عدد من الكتاب الشبان فى إصدار صحيفة أدبية جديدة باسم «عصر الأدب»، وكانت بداياته تميل إلى الأسلوب السريالى ومن ثم الانطباعى فى الأدب، ولهذا اعتمد على الغموض وإطلاق خيال القارئ ليصل إلى مغزى كتاباته التى تميزت بشاعرية سوداوية تقترب إلى حد بعيد من التراث الأدبى اليابانى القديم.

الترجمة الإنجليزية لرائعته “منزل الجميلات النائمات”

فى السادس عشر من أبريل ١٩٧٢، وجد ياسونارى كاواباتا جثة هامدة، إثر انتحاره بالغاز، وكان عمره ٧٢ عامًا، ولعل الانتحار، على رغم أنه يوجد تقليد فى اليابان يبيح الموت الإرادى، أكثر أشكال الموت غرابة وغموضًا وسرية، تمامًا مثل كتاباته، إذ حاول العديد من النظريات تفسير انتحاره، ومن بينها صحته الضعيفة، أو قصة حب محتملة مرفوضة من المجتمع، أو صدمة انتحار تلميذه وصديقه يوكيو ميشيما فى ١٩٧٠، وعلى أى حال فإنه، على العكس من ميشيما، لم يترك رسالة قبل انتحاره، ولم يناقش مسألة الانتحار فى كتاباته.

أخيرًا يذكر أن ثلاثة كتاب يابانيون هم مَن فازوا بجائزة نوبل فى الأدب منذ أن بدأ منحها لأول مرة فى عام ١٩٠١، وهم ياسونارى كاواباتا ياسونارى فى عام ١٩٦٨، وكينزا بورو أوى فى عام ١٩٩٤، وكازو إيشيجورو «البريطانى يابانى الأصول» فى عام ٢٠١٧، وظلت أسماء يوكو ميشيما وهاروكى موراكامى تلاحق الجائزة كأكثر مستحقيها من الكُتاب الأكثر قبولًا وانتشارًا حول العالم، وربما يعد كاواباتا من أكثر أدباء كوكب اليابان حظًا فى الترجمة إلى العربية، إذ ترجمت له عدة أعمال منها «حزن وجمال»، و«البحيرة»، «ضجيج الجبل»، «منزل الجميلات النائمات»، «بلد الثلوج»، «راقصة إيزو»، «سرب طيور بيضاء»، و«قصص بحجم راحة اليد».