رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتفاضات شيوعية فى الصعيد

يعتبر العديد من المؤرخين فترة منتصف القرن التاسع عشر بوصفها "إمبريالية غير رسمية"، وفيها فرضت بريطانيا العظمى سيطرتها على دول صغيرة كثيرة دون أن تحتلها عسكريًا، بدعوى مساعدتها في الرقي والتقدم من خلال فتح الأسواق للتجارة مع أوروبا.
في تلك الفترة سقطت مصر تحت الهيمنة البريطانية، وبدأت عملية التجارة والتبادل، وهو تبادل غير متكافئ بين دولة لها قاعدة صناعية كبرى، ودولة زراعية متخلفة، وسعى صناع النسيج في بريطانيا إلى الحصول على القطن الخام من مصر، ومن أجل هذ أصدر حكام مصر قوانين وتشريعات لدعم تجارة الحاصلات الزراعية، وتسهيل حركة التجار بين الشمال والجنوب، وطبقت تلك القوانين بإحكام شديد على الوجه البحري، ولم تتمكن من فرض هيمنتها على الصعيد، مما أدى هذا إلى اندلاع ثورة عارمة.
يروي المؤرخون أخبار المراكب البخارية السريعة التي كانت تحمل التجارة من المديريات والأبعديات والمناجم من قلب الصحراء للنخبة الحاكمة في القاهرة.
اعتادت بواخر السياح والبريد الإبحار في نهر النيل مرورًا بقنا جنوب مصر، كل أسبوعين، وتحولت قنا إلى سوق كبيرة للغلال، كما كانت تمر بها القوافل القادمة من دارفور في السودان، لأجل هذا انتشر في ربوع قنا القناصل التجاريون الممثلون لدول مثل بريطانيا وفرنسا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وقام هؤلاء القناصل بتوظيف أفراد من النخبة القبطية لمساعدتهم في أعمالهم، واستقر هؤلاء في الأقصر وقوص، وشيدوا المنازل الواسعة الملحق بها حدائق ليسكنوها مع عائلاتهم، واستعانوا بالعمالة المحلية الرخيصة لخدمتهم.
ولم تتردد الحكومة في قمع الأهالي، وإجبارهم على العمل بالسخرة في الأشغال العمومية في المديرية. 
وقد حدث أن أرسل أحد القناصل طلبا لمدير قنا لأجل أن يجمع له نجارين لبناء سفن لإنشاء مركب خاص، حيث استجاب المدير، وأرسل النجارين مع توصية بأن القنصل سيدفع تكاليفهم وليست خزانة المديرية، حتى لا يطالب هؤلاء العمال المديرية فيما بعد بأجورهم، كما طلب التجار الأوروبيون بعض الجمالة ومعهم جمالهم، لمساعدتهم في نقل أعمال النقل، ولكنهم لم يدفعوا لهم أجورهم المتفق عليها، فكان أن رفضوا نقل الحبوب إلى البواخر الراسية في الميناء النيلي القريب للسوق.
في عام 1858 اندلعت انتفاضة كبرى قامت بها عصابات في إسنا، أجبرت سعيد باشا على إجراء اصلاحات إدارية شاملة في قنا.
شكل قطاع الطرق تهديدًا للأوروبيين بفعل الهجمات المتكررة عليهم، ورد الأجانب بإطلاق النيران عشوائيًا على الأهالي، وهرب المتمردون إلى الجبال، وفشلت الشرطة في القبض عليهم، مما اضطر حاكم إسنا حسين صبري بك إلى دفع الثمن غاليًا وخسر منصبه، بسبب عدم كفاءته، وقام الخديو سعيد بضم مديرتي إسنا وقنا تحت لواء واحد ومدير واحد هو موسى بك مدير قنا. وأرسلت القاهرة وحدة عسكرية ووضعتها تحت تصرف هذا المدير مع باخرة نيلية، من أجل سلامة الأوروبيين.
وفي عام 1859 أطلق بعض أفراد العصابات واسمه عثمان النيران على مركب تجاري لخواجة يوناني، وفي مدينة قنا قام لص بسرقة ملابس ومحفظة ممتلئة بالنقود من موظف حكومي.
وتفاقمت وتيرة الاستياء السياسي في قنا ضد التجار الأجانب، حتى صارت حوادث الهجوم على المراكب البخارية النيلية المملوكة للأوروبيين تتم بصفة يومية، وتخصصت بعض العصابات في سرقة مراكب التجار اليونانيين التي تحمل الغلال على وجه التحديد 
الرحالة الإنجليزية لوسي جوف جوردون. عندما كانت تقيم في الأقصر، للاستشفاء من مرض خطير في الصدر ألم بها. عاصرت خروج عشرات الآلاف من الفلاحين الغاضبين بهدف إسقاط حكومة الخديو، كان المتمردون تحت قيادة الشيخ أحمد الطيب الصوفي من قرية السليمية، ادعى أنه المهدي المنتظر، وخطب في الفلاحين خطابًا حماسيًا لحشد جموع الفقراء والساخطين على أنشطة التجار الأجانب في بلدانهم، واستيلاء كبارالملاك على أراضيهم، والعمل بانظام السخرة لدى الحكومة.

وكتبت قائلة في يومياتها بعنوان "رسائل من مصر" التي ترجمها الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، كتبت تقول: "هجموا على قارب بروسي وقتلوا كل من فيه، ثم أشعلوا النار فيه، وفي أعقاب ذلك أعلنت عشر قرى العصيان المفتوح، وقاد هذا الشغب درويش مجنون، فعل مثل ما فعل أبوه من قبل، اخذ يسبح بأسماء الله الحسنى، مثل يا لطيف، ثلاثة آلاف مرة كل ليلة طيلة ثلاث سنوات، ثم أعلن نفسه محصنا ضد الرصاص، وأنه اتخذ أخًا له من الجن، علمه بعض الحيل الأخرى، وخدع هذا الدرويش مطاريد الجبل، وأفهمهم أنه المهدي المنتظر، قبل أن يعلن الثورة ضد الحكومة والأتراك، وشاركت ثلاث قرى جنوبي قنا في هذا التمرد".
وصفت السيدة الإنجليزية الشيخ أحمد الطيب بأنه شيوعي، بسبب طبيعة دعوته التي تهدف إلى توزيع الثروة والأملاك على الأهالي! ووصلت أنباء الثورة والتمرد إلى الخديو إسماعيل، والذي سارع بإرسال سفن حربية صعدت في النيل قادمة من القاهرة، وانضمت إليها قوات فاضل باسا مدير أسيوط؛ كي تخمد تلك الثورة التي انتشرت في بلاد الصعيد، ونجحت قوات الخديو في إخضاع المتمردين والثوار.