رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطورة التخلى عن بلورة الذائقة العامة

البحث فى الدفاتر القديمة أحيانًا يكون ممتعًا، ويُخرج الباحث هذا من الملل، وربما تظهر أفكار ومشاريع كتابة لم تكن فى الحسبان حتى لو كانت عن الكراهية. بعد صدور رواية «مقبرة براغ»، سأل أحدهم كاتبها الإيطالى المبدع، أمبرتو إيكو، عن الكراهية التى بنى العمل عليها، أجاب: يمكننى القول إن ثمة وفرة من الروايات المكرسة للحب، وحان الوقت لشرح الكراهية التى هى شعور منتشر أكثر من الحب، «وإلا ما كانت هناك حروب أو جرائم أو سلوك عنصرى».
الحب علاقة انتقائية «أنا أحبك، وأنت تحبنى، وبقية العالم مستثنى من هذا الشعور»، فى حين أن الكراهية عامة، اجتماعية: يمكن لجماعة من الناس أن تكره أخرى، لذلك يطلب الديكتاتوريون من أتباعهم الكراهية «لا الحب»، ليحفظوا شملهم، وحيث إنى قضيت- يضيف إيكو- طفولتى تحت ديكتاتورية فاشية، أتذكر أننى كنت أُلقَن دائمًا كراهية بلد آخر «الفرنسيين، الإنجليز، الأمريكيين»، وأُشجّع على محبة موسولينى فقط، لحسن الحظ لم يُجدِ هذا النوع من التعليم، ولهذا كتبت «مقبرة براغ».. إيكو الفيلسوف والروائى الكبير «٥ يناير ١٩٣٢- ١٩ فبراير ٢٠١٦» هو صاحب رواية «اسم الوردة» التى ذاع صيتها فى الثقافة العربية، خصوصًا بعد احتفاء يوسف إدريس بها فى الأهرام نهاية ثمانينيات القرن الماضى، كتبها وهو فى الخمسين من عمره وكانت الأولى له، وقتها كان يبحث عن الفرق بين الكاتب المبدع والكاتب غير المبدع «كالفيلسوف والعالم فى الطبيعة»، وبين الكتابة الإبداعية والكتابة غير الإبداعية، واكتشف كما جاء فى كتابه الجميل «اعترافات روائى شاب» ترجمة سعيد بنكراد، أن الفيلسوف والعالم فى الطبيعة يكتبان نصوصًا قابلة للتلخيص، وللصياغة بطرق أخرى مختلفة دون أن تفقد معناها، فى حين أن نصوص المبدعين لا يمكن إعادة صياغتها كليًا، ولا يمكن شرحها بسهولة. النقاد الأوائل الذين قرأوا رواية «اسم الوردة» قالوا إنها كتبت تحت تأثير إلهام وإشراق، فى حين أنه عندما قرّر كتابتها كان قد رأى أنه سيكون مسليًا أن يكتب رواية عن تسميم راهب وهو يقرأ كتابًا غريبًا، فتناول مادتها عن الرفّ، حيث الملفات مكدّسة من سنين عدة، «لقد كانت المادة هناك فى متناولى» كما يقول، و«لم يكن علىّ فى مدى سنتين لكتابتها سوى انتقاء ما كنت فى حاجة إليه». بعد نجاح روايته الأولى، صار أمبيرتو إيكو أكثر سعادة بلقب «الروائى»، قبلها كان فيلسوفًا وسيميائيًا، وقال إنه تعلم أشياء كثيرة وهو يكتب «اسم الوردة»، منها أن «الإلهام» كلمة سيئة، ويعترف فى كتاب «مذكرات روائى شاب»، بأن كل رواية من رواياته كانت حاصل فكرة تملكته، اسم الوردة مثلًا عبّرت عن تعلّقه بصورة الراهب الذى تسمّم وهو يقرأ كتابًا، والتى كانت مرتبطة بذكرى تجربة عاشها وهو فى السادسة من عمره، وحكى عن أسباب كتابة أعماله الأخرى. كتب إيكو مقالًا قبل رحيله بشهور فى «لوموند» الفرنسية تُرجم إلى العربية، ونُشر فى أكثر من مكان وقتها، عن تراجع الصحافة النقدية فى عصر هيمنة الأخبار الفورية وضعف الاستقلال النقدى، أكد فيه أنه ملتزم بمقولة هيجل أن قراءة الصحف هى «صلاة الإنسان الحديث»، رغم أن الصحافة تميل إلى تكرار الأخبار البائتة منذ المساء، ويرى أنه فى الإمكان قصر الأخبار الرئيسية فى الصحيفة على عمود واحد، على نحو ما تفعل نيويورك تايمز، وأن الصحافة فى حاجة إلى إفساح المجال أمام الأفكار، والنقد الأدبى كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة فى الصحف التى تنشغل بسباق حيازة الخبر الحصرى وترجح كفة المقابلة السريعة التى تنشر يوم صدور الكتاب، على كفة مطالعة الرواية وتقويم أسلوبها. ومثل هذه المطالعة تقتضى أسبوعًا، والصحف التى تتريث فى تناول الكتاب الجديد تغامر بخسارة السبق، ولا يجوز للصحافة أن تتخلى عن بلورة الذائقة العامة ورسم وجهها، مطلوب منها إنجاز عدد أكبر من التحقيقات، وتسليط الضوء على التظاهرات المعادية للعولمة، وكان يرى أن هيمنة المجموعات الاقتصادية الكبيرة أضر بها وجعلها أمام خيارين: إما تثقيف القارئ وإما اللحاق بذائقته، وأن المشكلة هى الزيف، واعتماد نظرية المؤامرة، التى هى الجسر إلى رفع المسئولية عن طرف ما، وتعفينا جميعًا من المسئولية.