رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشعوبية الجديدة

تاريخيًا كانت «الشعوبية» سبب انهيار الخلافة العباسية القوى، حركة عنصرية هاجم فيها المسلمون بعضهم البعض، الفرس قالوا إنهم أفضل من العرب، والمسلمون من أصل هندى قالوا إنهم أفضل، وكذلك التركمان والعرب ردوا بالهجوم على الجميع، سنوات وراء السنوات والجميع يأكل فى الجميع، وكانت النتيجة تفسُخ الإمبراطورية الإسلامية وسيادة الانقسام والتشتت داخل العالم الإسلامى.. من مواقع التواصل الاجتماعى تنبعث رائحة شعوبية جديدة يهاجم فيها العرب بعضهم البعض، حسابات مجهولة ومنشورات سفاح تنشر نار الفرقة والأذى والإهانة بين العرب وبعضهم البعض، لاعبون مجهولون وجمهور قد يتورط بالمشاركة دون أن يعرف أبعاد ما يجرى.. خليجيون يهاجمون مصريين، ومغاربة يهاجمون الخليج، ومصريون يهاجمون سعوديين، وسعوديون يهاجمون مصريين، لكن كل هذه الجنسيات التى ذكرتها لا دليل واحدًا على صحة انتساب المهاجمين لها.. أنت تجد حسابًا يُعرف صاحبه نفسه بأنه خليجى يهاجم المصريين مثلًا، وتجد حسابًا يُعرف صاحبه نفسه بأنه من غزة يهاجم المملكة العربية السعودية.. إلخ.. لا دليل واحدًا على أن أصحاب هذه الحسابات ينتمون فعلًا للبلاد التى ينتحلون جنسيتها، أحد الحسابات يعرّف صاحبه نفسه بأنه شخص سعودى ويخصصه لمطاردة المصريين العاملين فى المملكة والتحريض على فصلهم.. الشيطان نفسه لا يمكن أن يفعل أكثر من هذا لبث الكراهية والفرقة بين الشعبين.. وأنا طفل كنت أسأل نفسى هل يوجد مكان يتجمع فيه الجواسيس فى لندن مثلًا أو باريس؟.. وكيف يجدون بعضهم البعض بهذه السهولة فى أفلام «جيمس بوند»؟، حين كبرت عرفت أن مواقع التواصل هى المكان الذى يتجمع فيه الجواسيس بالفعل، لا يمكن أن يهاجم العرب بعضهم البعض بهذه الضراوة والحقارة وانعدام الأخلاق.. لا بد أن من يفعل هذا لجان من الجواسيس المعادين لأى مصلحة عربية.. مستحيل أن يتورط أى مسئول عربى فى تشجيع نشر هذه الإساءات للشعوب العربية.. من الغريب جدًا أن تسعى بعض الدول لتطبيع العلاقات مع الأعداء وينشر بعض المنتسبين لها هذه الإساءات تجاه الشعوب العربية، ولا يجوز أن نسكت نحن أيضًا عن انتحال أصحاب بعض الحسابات صفة المصريين وتوجيههم الإساءة لأى شعب عربى، حتى لو ادّعى بعضهم أنه يرد الإساءة، بعض هذه الحسابات يتورط فى معركة مع حساب يدّعى أنه خليجى ويدافع عن عظمة الحضارة المصرية.. ما هذا الخبل؟ الحضارة المصرية أعظم حضارات العالم القديم، ولا تقارن إلا بمثيلاتها من الحضارات العريقة.. يمكن أن نقارنها بالحضارة الصينية مثلًا، ونقول نحن اكتشفنا كذا وهم اكتشفوا كذا.. أو بالحضارة الآشورية القديمة أو بالحضارة الفينيقية مثلًا.. هذه هى حضارات الشرق القديم العظمى، أما غير ذلك فهو هراء، وتضييع وقت، ونشر للطاقات السلبية والعبثية.. العرب فرقتهم السياسة منذ زمن طويل ولكن جمعتهم الثقافة والفنون والدين والمصاهرات والعادات الاجتماعية المشتركة.. فى مصر آلاف العائلات تحمل لقب الحجازى والمغربى والعراقى والشامى، وفى الدول العربية آلاف الأسر تحمل لقب المصرى.. ببساطة كل مؤسسى هذه الأسر جاءوا من الأقطار العربية التى يحملون أسماءها.. ماذا يمكن للدول العربية أن تفعل إزاء هذا النشاط الشيطانى على مواقع التواصل الاجتماعى؟.. بعض هذه الحسابات توحى بأنها لجان إلكترونية لحساب تلك الإمارة وهذه المملكة.. أعتقد أن على الدول العربية أن تتفق جميعًا على تطبيق القانون، وأن يتم تحديد مواقع بث هذه الحسابات المسمومة والأسماء الحقيقية لمن يديرونها، وأن يتم تطبيق القانون عليهم، ويمكن لجامعة الدول العربية أن تلعب دورًا فى هذا المجال، سواء بالتنسيق أو بإصدار ميثاق شرف يخص ممارسات مواقع التواصل أو بإحالة الأمر لمؤتمر وزراء الخارجية العرب.. هذه الحسابات تُضيّع طاقة الشعوب فيما لا طائل من ورائه، وتخدع بعضهم بأوهام العظمة وتتركه غارقًا فيها، بينما العالم يتقدم للأمام والعرب يسبون بعضهم البعض أو يتركون الجواسيس يخربون العلاقات بين الشعوب العربية وبعضها البعض.