رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهروب إلى السينما

فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، أيام تأجير شرائط الفيديو، كنت أجلس بالأسبوع فى بيتى ببولاق الدكرور لا أفعل شيئًا سوى مشاهدة الأفلام، وأنزل إلى وسط البلد لأستبدل ما لدىّ بعشرين فيلمًا آخر، كان العراق قد دُمر تمامًا، وكانت السينما هى السبيل الوحيد للابتعاد عن الأحداث الدامية، لدرجة أننى فى إحدى الليالى قمت مفزوعًا بسبب كابوس كُتبت فى نهايته عبارة «طبعت الترجمة بمعامل أنيس عبيد بالقاهرة»، تذكرت هذا وأنا غارق فى مشاهدة الأفلام الأسبوع الماضى فى مهرجان الجونة السينمائى، هروبًا من متابعة المجازر التى يرتكبها العدو الإسرائيلى ضد أهلنا فى فلسطين المحتلة، كانت مائدة عامرة بالخيال وتنوع الموضوعات والثقافات، أربعة أيام كنت أتابع ما يجرى فى غزة من بعيد، وبعد أن أفرغ من مشاهدة أحد الأفلام. لأول مرة مثلًا أحب فيلمًا فرنسيًا، لست من عشاق فرنسا بشكل عام، ربما بسبب تاريخهم الاستعمارى، خصوصًا فى الجزائر، وربما بسبب مواقفهم الداعمة للاحتلال، رغم حرصهم الشديد على البعد الثقافى الذى يتباهون به أمام العالم، بورخيس الأرجنتينى العظيم كان يرى أن مشكلة المثقف الفرنسى أنه يعرّف نفسه على أنه ينتمى إلى فكرة ما أو حزب أو طبقة أو مذهب، ولا يوجد أحد خارج هذه الانتماءات التى يحتمى فيها الجميع، المهم، فيلم «تشريح سقوط»، الحائز على السعفة الذهبية فى مهرجان كان السينمائى هذا العام لمخرجته جوستين ترييه، فيلم فريد من نوعه، بطلته كاتبة القصص متهمة بقتل زوجها، وطوال الفيلم «١٥١ دقيقة» وطوال الأحداث التى تدور بين المنزل الذى تعيش فيه مع ابنها الصبى الذى فقد بصره وعمره أربع سنوات بسبب تأخر والده القتيل عن المجىء به من المدرسة، وبين قاعة المحكمة ومشاهد الفلاش باك بين الزوج والزوجة، لأول مرة لا نشعر بملل الحوارات الفرنسية.

البطلة الكاتبة ألمانية، وزوجها فرنسى، قرر العودة إلى بيته الجبلى فى جبال الألب الفرنسية، ولغة الحوار فى البيت إنجليزية، التحقيقات لم تعرف: هل انتحر أم قتل؟ والمشاهد مع الوقت لم يعد مهتمًا بمعرفة القاتل، فيلم غريب ينتمى إلى ما يعرف بأفلام المحكمة، بطلته ساندرا هوللر ممثلة عظيمة، تعاطفنا معها ومع ورطتها، ولم نسع إلى تبرئتها أيضًا، التى حصلت عليها فى النهاية، الغريب فى الأمر، أن الرجال أحبوا الفيلم جميعًا بسبب السيناريو المحكم والحوار الذكى والحبكة والموسيقى والتصوير، وفى الوقت نفسه لم تحبه معظم السيدات، لا نعرف لماذا؟، الفيلم الثانى هو «القصر» للمخضرم رومان بولانسكى «٩٠ سنة»، أنت أمام كوميديا سوداء، جمعت أثرياء العالم للاحتفال بدخول الألفية الثالثة، الفيلم هجاء سياسى للرأسمالية وتفاهة وسطحية رموزها، الفيلم لا يشبه السينما التى تعودنا على مشاهدتها، قدم رجال الأعمال كأشخاص سمجين وسوقيين وأغبياء، هناك الروسى الذى اقترب من التسعين المتزوج من فتاة سمينة فى العشرين ويموت وهو يمارس الجنس معها، وتتواطأ إدارة الفندق السويسرى الموجود فى جبال الألب معها بعد «تسليكها» من الميت؛ لأنها لن ترث لو عرف الخبر قبل انتصاف الليل، الفيلم أدخلنا فى عالم هؤلاء ونجح المخرج فى تعريتهم، وجعلنا نقترب أيضًا إلى كواليس صناعة هذا الترف الاجتماعى، حيث يتم تحضير الطعام وتنظيف الأسرة وتوفير سبل الراحة لأشخاص لا يعترفون بوجود هذه الطبقات، بولانسكى الذى أدين أخلاقيًا وسجن فى الماضى «قضية اغتصاب قاصر» قرر الانتقام من الأثرياء والنساء العجائز المدللات، لم يحاول أن يكون ماركسيًا أو مناضلًا ضد العولمة، هو يريد فقط أن نضحك على هؤلاء عن طريق الكوميديا البدائية والمفارقات التى عفى عليها الزمن، ونجح فى ذلك.. من الصعب حكى تفاصيل العمل، ولكنك أمام فيلم من الصعب أن يُنسى.. السينما سحر، وتتقدم بالأفكار الجديدة والخيال والحرية، ومن مزايا المهرجانات أنها تشير إلى ثقافات أخرى تقدم سينما جميلة بعيدًا عن السينما الأمريكية التى سيطرت على تفكير وذوق المشاهدين فى العالم كله.