رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثمانينيات وشعرها

أصبح الحديث عن فن الشعر نادرًا، رغم ازدهاره فى مصر ومعظم الدول العربية، وبين الحين والآخر يطل أحد الشعراء بآراء غريبة، معتقدًا أن هناك من يهتم بها، وأنا بطبعى أتفادى الدخول فى معارك حول الشعر، وعشت مقتنعًا بأن كتابة القصيدة هى الدفاع المناسب عن الشعر الذى أنحاز له.

جيل الثمانينيات الذى أنتمى إليه تعرض إلى ظلم شديد من الجيل السابق له ومن الجيل التالى، واعتبره أحد شعراء السبعينيات فى كتاب كامل «كوبرى» بين جيلين، ولكن مع مرور الزمن تبين أنه الأكثر إخلاصًا للشعر، وأكثر الأجيال إنتاجًا، وهذا لا يعنى التقليل من منجز الآخرين، بالطبع يوجد فارق كبير بيننا وبين جيل السبعينيات، الذى هو جيل الهزيمة الذى وجد نفسه وهو يبدأ الحياة مطالبًا بالتعبير عن نفسه بطرائق غير مألوفة، بدأ الحياة فى مناخ معاد للثقافة والشعر فقرر أن يعتزل الجمهور العام ويتعالى عليه، خاض أكثر من معركة فى وقت واحد، انشغل بالتنظير حول الشعر أكثر مما ينبغى.

من الصعب إدانة شعراء هذا الجيل، لأنهم اعتقدوا أن معاركهم مع الشعر السائد هى معركة وطنية، وكان احتفاء الصحف العراقية والسورية والخليجية بتجاربهم بعد كامب ديفيد سببًا فى إيهامهم بأنهم رواد جدد فى الشعر العربى، لو تأملت مصائرهم بعد ذلك، ستكتشف أن عددًا ليس قليلًا منهم تراجع عن قناعاته السابقة، وكتب شعرًا فى غاية العذوبة، لأنهم اكتشفوا أن تجاربهم «المعملية» لم تصمد أمام التجارب التى جاءت بعد ذلك.

أحب حلمى سالم وشطحاته، وأحب أيضًا استطعامه التجارب الجديدة، وأحب شعر أحمد طه رغم قلته، وأحب رحابة صدر محمد بدوى، وقصائد جمال القصاص وعبدالمقصود عبدالكريم الأخيرة. أحب تجربتى محمد صالح وفريد أبوسعدة. الزمن غيّر فى الجميع حتى فى جيلى، اختفت «الميليشيات» الشعرية التى كانت رائجة فى السبعينيات والثمانينيات على هيئة جماعات شعرية لا تعترف إلا بإنجاز شعرائها، أو مجلات محدودة التأثير.

أما جيلى فهو جيل نجح فى الانحياز للشعر والحياة، ليتغلب على صعوبات الحياة، فهو جيل كان غير مرحب به من الجيل السابق، ولا من المؤسسة الرسمية. ولم يرتبط بمصالح مع الأكاديميين والمستشرقين، ولم يشغل باله باعتراف كهنة الثقافة العربية أمثال جابر عصفور وأدونيس «وتلاميذه»، أنتج أسماء رائقة أصبح لها حضور رائع، ليس فى الشعر فقط، ولكن أيضًا فى العمل العام. وانحيازى لهذا الجيل ليس بسبب انتمائى إليه، ولكن لأننى مثل غالبيتهم. جئنا من بيئة متشابهة ولم يدع أحد الريادة، رغم الدور الكبير الذى لعبه هذا الجيل فى قصيدة النثر، وجعلها قصيدة مصرية عربية لا تستند إلى تجارب الآخرين فى لبنان والشام والشعر المترجم. لم يتربح أحدنا من الكتابة ولم يبحث أحدنا عن مجد ما، كتبنا، ولكل واحد صوته الخاص، وطريقته فى القنص. توجد أصوات جميلة ظهرت بعد ذلك لا شك، ولكن إخلاص جيل الثمانينيات للشعر، رغم التجاهل النقدى من الحرس القديم، هو الذى جعله يستمر ويبدع فى مناخ غير شاعرى بالمرة، سألنى الشاعر الدكتور محمد السيد إسماعيل مرة عن مبرراتى للكتابة، قلت له إننى أكتب لأننى لا أجيد شيئًا آخر، وأبحث عن أصدقاء بالكتابة، أكتب لكى أسعد أصدقائى، أكتب لكى أتجاوز المطبات التى وضعها القبح فى الطريق.

أنا شخص وحيد وحزين وحالم، أواجه متطلبات الحياة بالعمل والركض وكتابة الشعر والمقالات، يزداد الشعر صعوبة يومًا بعد يوم، وكنت أتمنى أن أتفرغ لكتابته، أو للكتابة التى تخصنى بشكل عام. همومى هى هموم الجميع، أنشد الألفة والعدالة والديمقراطية، وأعبر عن همومى بطريقتى خارج الكتابة، التى أتفادى من خلالها الحديث عن الموضوعات الكبرى، وساعدتنى قصيدة النثر بإمكانياتها العظيمة على التعبير عن نفسى وعن زمنى بلغة خالية من الشحوم البلاغية، وإذا سألتنى عن الذين أثروا فىَ من الشعراء الكبار سأقول لك: هم محمد الماغوط وأحمد عبدالمعطى حجازى ونزار قبانى وعبدالرحمن الأبنودى، ومحمود درويش، وقبل الجميع محمود حسن إسماعيل، وأقدر الشعراء الكبار جميعًا، فمثلًا محمد عفيفى مطر كان من أقرب أصدقائى، وربما تأثرت باعتزازه بكونه شاعرًا. وأحببت أمل دنقل وسركون بولص ووديع سعادة وأنسى الحاج، تمامًا كما أحببت سعدى يوسف شاعرًا وصديقًا. وأحب من شعراء جيلى كثيرين، مثل على منصور ومحمود قرنى، رحمة الله عليه، وفاطمة قنديل وإيمان مرسال، على سبيل المثال. وأعتقد أن الشعر العربى فى كل الأقطار فى حالة جيدة جدًا، ربما أفضل من فترات كثيرة سابقة، ولكننا كما تعرف فى قطار يقوده أشخاص يرتابون فى الخيال الجديد، ولا يريدون التعرف على شعراء صادقين.