رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رومانسية مرسى جميل عزيز الخضراء

سعدت كثيرًا بقراءة كتاب «مرسى جميل عزيز.. متخيل شعبى ورومانسية خضراء» لمحمود الحلوانى، لأننا أمام تجربة جادة ومحاولة لإنصاف أحد أهم شعراء الأغنية، وأحد أهم الشعراء بشكل عام، الكتاب، الذى صدر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب، يتميز ببعده عن لغة النقاد الجافة، ربما لأن كاتبه شاعر مستمتع بالتجول فى عالم عزيز المتنوع والخصب والملىء بالمفاجآت، فى البداية يوجد خطأ شائع روّج له قطاع كبير من المتحذلقين، وهو أن شعراء الأغنية منزلتهم أدنى من بقية الشعراء، وبناء عليه لم يهتم النقد الأدبى بمنجزهم، رغم تأثيرهم العظيم فى تشكيل وجدان الأمة، وحتى عندما تناول هذا النقد كبار شعراء العامية أمثال بيرم التونسى وبديع خيرى وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم وعشرات غيرهم، لم يخلص فى التناول، وغالبًا ما كان اهتمامه بهم مرتبطًا بمناسبة ما، وليس إيمانًا بدور قصيدة العامية فى تطوير الشعر العربى فى مصر، شاعر الأغنية الموهوب هو الذى يستطيع أن يصل إلى الجمهور من أقصر الطرق، وهو الذى يستثمر مخزون البداهة لمخاطبة الناس، وهو الذى يعرف الاحتياجات الإنسانية البسيطة لشخص يحتاج إلى من يعبر عن مشاعره دون افتعال، شاعر الأغنية لكى يصل إلى الناس يحتاج إلى طاقة روحية كبيرة لكى يجمع الجمهور حول كلماته، هو ليس «خفيفًا» كما يزعم حماة القصيدة الفصحى، ولا ساذجًا كما يدّعى أصحاب نظريات العمق، من القلائل الذين انتبهوا لأهمية شاعر الأغنية الأساتذة يحيى حقى وخيرى شلبى ورجاء النقاش وغالى شكرى وفرج العنترى وكمال النجمى وعدد قليل غيرهم، فى مقال ليحيى يحقى حمل عنوان «الأغنية جديرة بالدراسة»، قال: «من الإنصاف أن نقر أن كتابة الأغنية بالعامية لا ينفى عنها صفة الشعر، بل أعتقد أن قدرًا كبيرًا من طاقة هذا الجيل على قول الشعر قد انصب فى قالب الأغنية، ولم لا يقال إن الأغنية الآن، دون الأدب الرسمى، هى الامتداد الطبيعى لحركة الشعر، فالأغنية باعتبارها شعرًا ونصًا دراميًا جديرة بالاهتمام والدراسة والتحليل، للإلمام بأبعادها وأخيلتها الشعرية.. استطاعت أن تعمل على تطويع البحور والقوافى إلى نمط حديث يوافق ذوق أهل العصر»، كتاب الحلوانى قفزة فى هذا الاتجاه، والاحتفاء بمرسى جميل عزيز هو احتفاء بموهوب عظيم، أسهم فى الارتقاء بفن الغناء وأنقذه من شعراء الصد والهجران، بشاعرية ولطف ومحبة للناس، تكوينه النفسى والثقافى واللغوى كان له أكبر الأثر فى منجزه، فهو ابن أحد كبار تجار الفاكهة فى محافظة الشرقية، مما أتاح له فرصة واسعة للاحتكاك بالسوق والجماعة الشعبية وتصوراتها عن الحياة والموت والغناء، فى حديث إذاعى كما جاء فى الكتاب قال مرسى جميل عزيز «١٩٢١- ١٩٨٠» إنه استلهم مطلع أغنية «توب الفرح يا توب»، التى غنتها المطربة أحلام، من نداء بائع الثوم فى السوق «توم الخزين يا توم»، وأنه استلهم أغنية سيرة الحب لأم كلثوم من إيقاع أغنية الأطفال الشعبية «طلعت أدب نزلت أدب»، مرسى إلى جوار تربيته فى أسرة ميسورة الحال فى الأقاليم، مارس أنشطة متنوعة، فإلى جانب تعليمه النظامى وحفظه أجزاءً من القرآن الكريم فى طفولته، كان قارئًا نهمًا للتراث العربى، مطلعًا على الفنون والآداب العالمية، ويجيد الإنجليزية والفرنسية، ويعزف على العود، سافر كثيرًا، وأوصله ولعه الشديد بالتصوير الفوتوغرافى وممارسته له إلى احتراف فن التصوير، ويقال إنه أقام معرضًا للوحاته فى لندن مطلع الخمسينيات، وإن علاقات وطيدة ربطته مع المصورين السورياليين العالميين، والتحق أيضًا بمعهد السينما منذ إنشائه سنة ١٩٦٣، وحصل على دبلوم المعهد فى كتابة السيناريو، كما درس المسرح وأصول الدراما وحرفية السينما، الحلوانى انتقى من رصيد الشاعر العظيم عددًا من أغانيه، وحاول استنطاق جمالياتها بطريقة فريدة ومبتكرة، مثل «الحلوة داير شباكها، وأما براوه، وشباكنا ستايره حرير، إيه هو ده؟، وأعز الناس، شفت بعينى ماحدش قاللى، وقفوا الخطاب»، وغيرها من الأغنيات التى تؤكد فرادة الشاعر وخصوبة خياله واستلهامه الفذ للتراث الشعبى، الكتاب الذى يقع فى ٢٣٠ صفحة من القطع المتوسط، من الصعب الإحاطة بمحتواه فى مساحة كهذه، ورغم الرصانة والوقار اللذين اعتمدهما محمود الحلوانى فى الكتابة باللغة العربية الفصحى، والاستشهادات التى ضمها الكتاب لعدد كبير من النقاد والمفكرين، إلا أن الإحساس بالعامية المصرية الجميلة الملهمة صحبنى إلى أن فرغت من القراءة.